يُربَّى الشعراء المعاصرون -معظمهم-
على فحش في القول و بذاءة باللفظ ودناءة بالسلوك والتعبير- في شعر الغزل خاصَّةً
حتّى يبلغ مرحلة الإباحية - ، غير ذلك الذي نجده في شعراء المتقدمين من لدن العصر
الجاهليِّ وعلى مرِّ الدهور في مختلف الطوائف والطرائق .
و نحن نرى تأثيراً كبيراً لهذه
التربية الفاسدة بنشأة الأجيال وأخلاقيَّاتهم ، و إن كان ذلك لا يساوي التَّأثير
الذي كان في القرون السالفة ، و لكنه ينعكس سلباً على سلوك الشباب والفتيات .
ومع أنَّ أوَّل من تعهَّر بشعره في
الوصف والتشبيب بالنساء امرأ القيس ، إلاَّ أنَّ الأخلاق العربيَّة كانت في العصر
الجاهلي والصَّدر الأوَّل للإسلام تمنع
جلَّ الشعراء من التعرض للتشبيب والوصف اللاأخلاقي ، بما فطروا عليه من عاداتٍ
أصيلةٍ و أخلاق نبيلة ، وعفِّةٍ باللِّسان والنَّفس ،نرى هذا واضحا في أشعارهم كما
في قول عنترة :
أغضُّ طرفي إن بدت لي جارتي
حتَّى يواري جارتي مأواها
فهم و إن تغزلوا بالنساء والحبيبات
والخليلات وأكثروا من ذلك حتَّى فاقوا كلّ العصور والأمم ، بما حوته أشعارهم من أدبٍ عالٍ رفيع خُلِّدت
له الذكرى دون غيره ، إلاَّ أنَّنا نراهم لم يزيدوا على الأوصاف الطبيعية التي تقع
عليها الأعين حيث تكون المرأة غير محجوبةٍ معتبرين ذلك من حسن الطبيعة كمثل جمال
الشمس والقمر ، والورود والأزاهير .
و أسبغ الإسلام على أخلاقهم وعفتهم
حُلَّة الدين و التقوى ، حتى أننا نجد عشاقهم الذين ذاع صيتهم في الآفاق حتى بغوا
حد الأساطير كمجنون بني عامر أشهر
العشَّاق الذي تاه على وجهه حتَّى جنَّ بعد أن ذاع صيته ومنعه منها أهلها وقال:
أبى القلب إلاَّ حب ليلَ ، وبغَّضت
إليَّ نساءٌ مالهنَّ ذنوب
و ما هي إلاَّ أن أراها فجاءةً
فأبهت ... حتى لا أكاد أجيب
وقد ارتبط اسمه منذ القديم بالحبِّ
والغزل حتَّى قلت فيه في أحد دواويني :
للحب تاريخٌ قديمٌ
لست أدري أيَّ عصرٍ قد بدا
لكن قصَّة قيس ليلى
في المدارج والشُّجون
حيث ضاعت منه ليلى
راح في الصَّحرا يتيهُ وما اهتدى
فابتدى من الجنون
كان حقَّاً مذهب الطَّيفِ الخياليِّ
الذي
ضاعت أمانيه سدى
أمَّ المحبَّ بمذهبٍ
و به الغرام قد اقتدى
وآخرٌ هو دونه بمرتبةٍ في تغزله الرقيق وحبه" جميل بثينة ، فقد
عشقها غلاما وبقي حتَّى شب وكبر ، فخطبها
فمنع منها ، فظلَّ يقول فيها أشعاراً حتى اشتهر .
وتعرضت له فتياتٌ بزينتهنَّ ذات مرَّة
يغرينه، فقال:
لتكليم يومٍ واحدٍ من بثينة
ورؤيتها عندي ألذُّ وأملح
من الدَّهر لو أخلو بكنَّ، وإنَّما
أعالج قلباً طامحاً حيث يطمح
و كثيرٌ من شعراء الغزل الرقيق ، نسجوا
على نسج هذين وأسلافهم بالنسيب الطاهر و لم يتعرضوا للنسوة تعرض التشبيب المسيء .
اللهم إلا ذلك الذي قال عنه الفرزدق
أرق الشعراء نسيباً : عمر بن أبي ربيعة ، الشاعر الغزل المترف ، حيث أنه برع
بالقصص الغزلية الطريفة ، ففتن الناس به
لرقة طبعه بالغزل وسهولة شعره ، و قد تاب في أواخر أيامه بعد أن نفي من الحجاز ،
وأقسم ألا يتعرَّض للنساء .
كما نبغ بالغزل خاصةً في تلك الآونة
شعراء كثر أمثال كُثيِّر و نصيب و جنادة العذري و غيرهم ممَّن
لم يبلغوا أولئك بالشُّهرة .