‏إظهار الرسائل ذات التسميات سن الأسطورة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات سن الأسطورة. إظهار كافة الرسائل

عود على بدء

0

هذا يومٌ لم يزلِ البين فيه يقضُّ مضجعي و يهوي بعزيمتي و يسرق من مشاعري ما أعرفه و ما لا يتبين حتى مع الرجل الحكيم ذي النظر النافذ و الإحساس المرهف و الإلهام الذي يعلو كلَّ إلهامٍ في بني البشر إلا إلهام النّبيين و أولياء الله المقرّبين
هذا يومٌ اهتزّت به شجرة طالما اعتنيت بها و سمدتها و أزلت عن تربتها كلَّ أذى و عن أغصانها كل قذى فأتى الربيع و لما تزهر شجرتي و حال عليها الحول و لم أر لها ثمرا ناضجا حلواً يذوب كالصَّمغ في الحلق قبل المضغ أجعله قوتي لي و لأهل بيتي و أرائي به كل عدو و حاسد و عذول
هذا يومٌ ما عرفت أنه يوم حتى أتى صباح غده و لم يك لي فيه قوة و لا حول إلا ما أمدني به رب الوجود الذي ملكني بفضله ملكاً أكاد احسب أن لم يكن لأحدٍ من قبلي حتى رأيتني لا أبدله بتاجٍ مرصّعٍ يعقد لي على أطراف الأرض و أقاصيها و أصقاعها كلها فما أن بلغت ذلك المقام بحوله وجدتني أزهد حتى فيه خوفاً من حياةٍ لا نهاية لها و لا حد يصلى بها الكافر في الجحيم إلى الأبد ذلك المعنى الذي لا يكاد يستطيع إدراكه عقلنا نحن البشر في هذه الحياة الفانية التي مهما طال فيها عمر الرجل فلا بد يوم على آلة حدباء محمول خارجاً من هذه الحياة منتقلا إلى دار الخلود التي لا فناء فيها و لا رقود و لا زمان فيها و لا سنين فأيُّ الحياتين أحقُّ أن نوليها منا اهتماما و انشغالاً أهذه الحياة الأبدية السرمدية أم تلك التي لا يساوي ملكها عند مالكها جناح بعوضة و لو ساوت ذلك القدر الضئيل لمنعها عن عدوه !!
هذا يومٌ استكملت فيه -أو كدت- الخروج عن هذه الحياة الماديةَّ التي لا بد للمؤمن  من خوضها حتى يلتحق بدار السلام التي يدعوه فيها ملكها بـ "من الحيِّ الذي لا يموت إلى الحيِّ الذي لا يموت"
بهذا اليوم الذي كنت قبله ألهث ثلاثين عاماً حتى أبلغه فأشمخ بكمال الأسطورة التي رسمت لي معتزا مفتخرا بذلك العرش الذي وهبته فأنقته و زينته و زركشته وأوشكت فيه على استلام الحكم الذي قدر لي و تنفيذ المهمة التي أنيطت بي و البدء في إشهار سيف دولتي و رفع راية الحقِّ الذي طفقت أتعلم أبجديتها طوال تلك السنين
حتى إذا بلغت ذلك اليوم وتبصَّرت فيما يكون بعد إتمام هذه الأسطورة الغريبة المحببة التي أضحت قريبةً من كلِّ نفسٍ و تساءلت فيما يكون بعدها المصير و إلام يكون المنقلب و هل أكون إلى فوز كبير أو إلى خسران مبين ذابت عندها تلك القصة الكاملة كما يذوب الشمع في النار و رحت أتفكر في قدرة القدير و عظمته و جبروته رحت أستجلي قدر عقابه و شدة عذابه و جليل انتقامه و عظيم بطشه فيمن كفر و ارتدَّ عن الصِّراط الذي هداه فنكب عنه و ارتدّ إلى هواه و اتبع شهواته وأخلد إلى الأرض فما انتفع بعلمه و لا بما آته الله من فكر و رأيٍ و عقل
وظللت كذلك ليل نهار أكاد ان ارى جهنم و أحس لفحها و أتخيل ذلك الموقف العصيب الذي يفر فيه المرء من أمه و أبيه بل و يفتدي المجرم من عذابه بأخيه و صاحبته و بنيه
ذلك يوم بتُّ أتفكر بأهواله حتى جننت أو كدت فانطرحت أرضاً حتى صار العذاب عذابي لا يقارن بعذابٍ في هذه الحياة الدنيا  أقول ذلك و ليس قولي من باب الإغراق أو المبالغة الشعرية أو الأدبية وإنما لو قيس عذاب الفكر بذلك اليوم بأشدِ عذاب في الدنيا لكان هذا دونه
وأنا الذي كنت أثق بعفو الله و غفرانه و لكن ...
و لكن ماذا لو أنَّ هذا الاتكال كان تواكلا و ماذا لو كانت هذه التقوى رياء و ماذا لو كان ذلك الإيمان باللسان لا في القلب ؟؟!!!
ماذا لو كان و ماذا لو كان و ماذا لو لم يكن
فمن ينجيني من هول موقف لا تكون النجاة فيه إلا بيد واحدٍ أحد !!
فلقد أمسيت أتخوف من العلم بعد أن كنت نهما فيه لا يكاد الكتاب يفارقني حتى خلال نومي سويعات أو تناول طعامي دقائق معدودات فإن كان ذلك فلا بد أنني تاركه للتفكر في محتوى واحد أو نقد آخر أو إعجاب بثالث أو في رسم قصيدة و استنباط معنى جديد يكون في جيد الأدب جوهرة يتيمة و صرت أحسد العامة وأشباه العامة على سذاجتهم حتى لكثيرا ما أتمثل قول أبي الطيب :
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
و أخو الجهالة بالشقاوة ينعم

أمَّا الحبُّ ...
    ذلك المعنى الروحاني الشفاف الذي طالما قد كان لي المتفسح الوحيد إذا ما أثقلتني الهموم ففررت إليه حتى من همومه
    و لجأت و احتميت بأسواره و حصونه معتصما بحبل الله و محبوبتي التي لا يكاد طيفها يفارقني و لا أفارقه فقد بات في هذا اليوم شبحاً ضبابيا رماديَّ اللون يكاد فوق البلاط الأسود يسيل
و أرهقت روحي أيما إرهاق و انزويت عن المحبين انزواء جديدا و أبعدت نفسي عن مجامع العشاق و رحلت دون طلب الرحيل و استنزفت قواي دون طائل و لا ميل وفي كل ناحية وعلى كل قبيل
و صارت أية عادة أعتادها لئيمة كريهة مشئومة و كل إشارة أتلقاها و لو كانت كل البشر لهي في مذمومة أتلقى المراسيل من الشياطين والأبالسة و قد كنت بالأمس أستلمها من الملائكة استلام اليد باليد  فأي عذاب إلا و هو العذاب الذي فيه أقضي ديمومة مطلقة تقضي على أجزاء التفاؤل المصحوب بالخجل و تحيل كل رائحة في أنفي رائحة نتن مميتة إن لم يقتلني التبغ كادت هي القاتلة
عذاب ما شهدت على ما عانيت من كل عذاب له نظيرا و لا شبيها
و علمت حينها و تيقنت انفصال روحي عن البدن حيث أنّّ هذا في النعيم مقيم و تلك في العذاب الذي لا يفارقها و لا تفارقه النكال الأليم و تعاظمت الهوة في كل لحظة فيما بينهما حتى صارا عدوين لدودين
و استنزفت قوة القلم و مداده ذلك السائل الإبريزي و أشعة ضوئه الفضية المنسكبة على كراسات العلم و المعرفة و الحكمة العالية الرفيعة و ابتعد عني و ابتعدت عنه و وجل مني و أغضيت منه فما يجمعنا يقظة و لا منام و صارت كل بشرى و إشارة لديَّ هي بمعنى نذير الشؤم لا أستطيع تبينها و لا قراءتها إلا كذلك و احترت فما تنفك الحيرة ملتصقة بي
و هام كل مجد أدركته أو أنا موقن بإدراكه و ابتعد و تلاشى فما عاد له في ذاتي معنى ولا هيئة و لا رسم
و زهدت بكل لحن عزفته و كل لوحة أبدعتها و كل مصنف و مؤلف و نظم فما يحبب إلى نفسي شيء و قد أحبت قبل كل شيء تلك النفس التي كانت ترى في عدوها  صديقا محتملا مرتقبا و في عذابها نعيما اقتربا
و في فقرها غنى و في بؤسها هناءة و في البين و صلا و في القرِّ عافية و في الحمى مطببة شافية و في البعد قربا و في الذل لله عزا رفيعا و في الانحناء له  حصنا منيعا
تلك النفس التي أضحت لا تعلم للتشاؤم رسما ولا هيئة باتت لا تدرك للتفاؤل معنى و لا صورة
فأين غبت كل تلك وأين راحت ثمَّ أين أين؟!
ربما أنك لا تصدق لو قلت لك أن القمر الذي كان يوحي لي قصائد و فرائد في الحب و الجمال و الفلسفة و الدلال أمسى أحد أسباب تشاؤمي و انفلاتي في حظيرة العذاب و إن شعاعه ذلك الذي كان يذهب عني في الصيف حره و في الشتاء قره فيسبغ علي حلة و رداء جميلا جليلا في ظاهر جسدي و في فؤادي و على قلبي و أوردتي و أعصابي و أهدابي حتى على ألفاظي و أنغامي لما أدندن بها أو أرسمها على بريق شعاعه المنبعث في الدجى لقد صار هذا الشعاع كأنه وهج جهنم على روحي قبل جسدي و على حشاشتي قبل ظاهر جلدي
نعم النجوم التي كنت أعدها لأهدي كل واحدة منها لحبيبة أحببتها في ماضي سني حياتي أو أنظم منها قلادة أو سبحة أجعلها في عنق حبيبيتي لقد صارت كأنها لي شهابا رصدا يذيقني من عذاب أليم فيدمر كل ما لي و كل ما أتيت به  أو خلفته ورائي حتى الشمعة التي كانت طالما ترافقني في ليالي الطوال أناجيها و أناغيها و أبثها تارات ما بي من حر الجوى و أطوارا ما اجد من وجدي للحبيبة أو من ألم في هجرانها أو أعلمها الأمل و تعلمني الصبر و التضحية فيستخلص كلانا في كل سهرة كتابا جليلا قد ينشره في الضحى كل منا في أمته فيقرؤوه ويفيدوا منها ما لم يفده كائن بشري و لا كائن شمعي
تلك الشمعة أمست لي رمزا للعذاب و آية في احتراق القلب و الروح معا في غابة تتحد فيها أغصان أشجار الألم العظيمة
حتى الفراشة و العصافير و الأزاهير
شجيرات الورد و أغصانه المائسة
شمس الضحى الدافئة
الأسماك الصغيرة و القطط الوديعة المحبوبة و الطفل الوليد الرضيع
في أثناء كل ذلك و حنايا و تضاعيف كل تلك أقرأ علامة الشقاء و التعاسة المستديمة التي لا مناص منها و لا نجاء
حقا أقول لقد عشت خارج هذا السور المكاني المحيط بنا الذي أسلفت عنه في بدء كتابي هذا و لم أكن قد تخيلت و لا ألهمت و لا توقعت حينها أن كيف سأخرج عن هذا الإطار الهوائي الشفاف المكتنز العريض
تاركا ورائي جسدا فانيا تسري به بقية من روحي لتبقيه على بقية من الحياة و لو أنني أقولها على المصطلح المتعارف عليه فيما بين البشر إلا أني لست اجد لذلك حقيقة عندي و إنك لتجد في النائم خروجا لروحه يسمى موت جزئي تكون فيه الروح خارج جسده بمقدار تبقي فيه رمق الحياة إلا أنك لو آذيت جسده و لو بطرف دبوس لانتبه من غفوته تلك بل حتى لو أدنيت من عينيه مصباحا لرأى في منامه ربما أنه ينظر في الشمس أو قربت منه شعلة لرأى أنه يتحرق بنار و ما شاكل ذلك في حالة النوم و مفارقة الروح الجسد
أما في الانفصال الطارئ عليَّ فما عدت أجد مما يجده النائم في حالاته تلك شيئا
و ليت شعري فمن يكترث لكل ذلك ممن حولي حتى أنني ما عدت أجد ذلك الحبل المتصل بيني وبين قرائي الذين كنت أبثهم جل ما يحل بي بل أقول و ما عساهم نافعي أو مخلصي من تلك البلوى و ذلك المصاب و الوصب
و بعد أن عدت من تلك الرحلة الزمنية في أعماق التاريخ و أدراجه  غائصا متشعبا بين رجالاته و خرافاته و ما اجتمعت بكل ذلك على من قد أصيب بمثل مصابي و لا ذاق شيئا من فوادحي و أوصابي

مع تحيات: الموقع الرّسمي للأستاذ ابن نزار الدمشقي

الفصل الخامس

0


و عاودت الحبَّ و معانيه و عاودتني أحاسيسه و خيالاته بعد ذلك طويلا و انهدم بين ذلك وذلك جسدي و قواي و صرت أطلب في كل ذلك مزيدا من هذا و ذاك لا أسيغه و إنما أمجه بعد إساغته و فيفيض بي نبعٌ عذب فرات سلسبيل يتيح لي من كل جانب و جهة مجالا و صولة أنال بها ما أنال من عذاب لذيذ و ألم مستحب لنفسي فأتوه على ذلك بين أزاهير الخريف الذهبية الجميلة و أنضوي تحت شجيرةٍ يابسة الأفنان تبعث في المزيد من الأشواق و الأشجان و كأنني ما ذقت من ذلك طول تلك الأيام و انبعث في الأمل جديد كأني ما ذقت من الأهوال شيئا أو كأن المحب قد كتب في تاريخه المستقبلي أن يبقى متنقلا يجوب و يخوض فيايفي الغرام و لجج الهيام لا يزيده كل ذلك إلا ظماً و لإي شيء إنما لما يظميه فيطغيه فيعود و يعود
و مشيت لا أهاب الخضم العتي َّ المصم و لا الليل البهي المدلهمَّ أن يضفي في نفسي شيئاً من شوقٍ إلى خوفٍ أو إلى حب تقهقر و انهزام من ميدان المعركة التي يقاتل فيها تحت لواء الولاء و الطاعة لخصمه يتبين له في كل جولة حبه لهذه المعركة و مناه في انتصارهما جميعا لا ترجح كفة لأحدهما في ذلك السبيل
فأي مجد ذلك الذي يسعى إليه المحب و أي عذاب يفر منه فيفترُّ ثغر الزمان عن ابتسام لهما بوطأة سيفه و صهوة جواده الذي لا يزال يحبو به نحو العلا حبوا
واستمر الطيف في الهجر القريب ذلك الهجر المعذب الذي يكون فيه الطيف هاجرا حاضرا و إنما يتستر بغشاءٍ من ذنوب المحب الحقيقية أو المتوهمة أو المدعاة من قبل الحبيب
و أفعى الشكوك بل وثعابين الوهم لا تزال بينهما تنفث سماً فيزيغ منه قلب الحبيبين
و لا تكاد تنير في تلك الظلم منارةٌ إلا و تسارع الشياطين في إخماد ذلك النور و إذهاب ذلك الأمل عن الدرب فيعودا لما كانا عليه
و يستمر الطيف في عتابه من غير أن يشعر محبه بوجوده بل يرسل كل ذلك عن طريق حديث نفسه و لومها مجنبا الحبيبة أو طيفها أي لوم أو عتاب و إنما ليبقى يعذب نفسه بنفسه و يجدد توبته فيتجدد أنينه من ذنبه الذي أتاه عظيما
و لا يكون و ربك الذنب عظيما و إنما كذلك توهمه الحبيبة أو الطيف أو هما معا ليعود فيعود
و كذلك بقيت طويلا من توبة إلى توبة و من عتاب إلى لوم إلى عذاب متنقلا متقلبا لا أفتئ كذلك حالي حتى خلال سويعات أقضيها متناوماً أو مدعي النوم
و كذلك يبقى المحبون....
و أي عذاب بربك أشق و أمر وأحر من ذلك العذاب الذي تدرك فيه أنك أنت المعذب المعذب لا تنفك تستلذ عذابك لنفسك و إيذاءك لها و إيلامك إيَّاها و كل ذلك أنت فيه أداة طيعة لطيفها المتواري عن بصرك و بصيرتك خلف ذلك الستار الضبابي الوهميِّ المتسدِّل على نور طيفها
و لكن...
حتام يستمر ذلك و حتام تطيعه و تنصاع لإرادته بل حتام يبقى متوارياً متخفِّيا بشيء هو من خلقه ليس له في الحقيقة وجود و إن كان له ثمة وجود فهل إلى إظهاره و إبرازه من سبيل في تلك الفوضى العارمة التي تجتاح أحاسيسك و كيانك و مشاعرك و كلك!!
إلا سبيل واحدة قد تستطيع فيها التخلص من كل ذلك في أن توحي لنفسك أن هبي من ذلك الذل و التصاغر أمام ذلك الجرم الذي أتيته جسيما
فتنسل من كل تاريخ قلبك كما ينسلُّ الخيط و ترميه وراءك ظهريا و تجثو هنيهة على قارعة ذلك الطريق أو تكبو على طرفه فتنتقي من أقدامك ما آلمك من الأشواك التي بت تدوسها برجليك غير مبال بل غير شاعر بإيلامها ووخزها إلا كما يشعر الطفل بدغدغة أمه في كفه تنسى كل ما مررت به من عذاب عذب و ذكريات حلوة طريفة و نفحات روحانية لا تستطيع أن تنساها حقيقة
و إنما تبقى في ذلك  لا تكل و لا تمل في البحث عن ذلك المخرج الذي أصف و أنت تداويها بالتي كانت هي الداء و إن كنت كذلك و تعتقد حينها أنها غير مدعية الحب و لا بائعة الهوى فتركد إلى النسيان أو الادعاء بذلك إن لم تستطعه فتسلو و تسلي نفسك حتى و لو كان السلو عنها بها و تريها منك ما أرتك حتى و لو لم تقدر عليه قلبا وقالبا أن تبديه في قالبك فقط
و استخدمت الدواء هذا الناجع الذي انتعشت بجرعاته الأولى و عادت لي البشاشة و السرور و القوة و الأمل
وانتحيت جانبا لا أصدق ما ادعي بل أقنع نفسي بكل ذلك رغما عنها حتى استلذذت به و قلت في ذلك سأقضي عشرة أيام بلا حب
فاعتزلت فيها الحبَّ و الطيف و الغزل و الذكرى و الطيف و الحنين و الشوق و كل أدوات الغرام و ألفاظ الحب و حتى الكتب التي تذكر في ذلك شيئا أو تعرض به و لو من بعيد في مديح أو إطراء ألقيتها في صندوق فركنته مع جملة الأغراض التي لا تعوزني الأيام لها إلا مصادفةً
عشت حياة رجل طبيعي أو لك أن تقول غير طبيعي
عشت حياة رجل خال من الهموم هموم الحب
و تركت نفسي على سجيتها ترسل وراء كل لحن رقيق شفاف يدخل من شقوق الباب الصفيق لدي في دار كتبي المظلمة الضيقة إلا عن الكتاب العريضة العتيدة
و أقعد وراء مكتبي فأنتضي اليراع شهاباً مستنيراً لا يذكر في أبجديته الباء لو سبقتها الحاء
كذي تاج و عرش و قصر عتيد و لكنه لا يحكم إلا نفسه حتى هذه فربما أنه يوهم نفسه إيهاما بحكمه لها
و لم أحتفظ من تاريخ قلبي إلا بالفوائد و العظات التي استقيتها من ذلك الدرب الطويل الذي قضيت فيه ربيع عمري و غرة شبابي فعجلت الكهولة إلى روحي و جسدي قبل دنو موعدها فحكمت الروح و الجسد









مع تحيات: الموقع الرّسمي للأستاذ ابن نزار الدمشقي

الفصل الرابع

0




و كذلك هو نقش الخاطر إذا ما تمّ في ظلامِ الأسر و وحشة العبودية و ذل الرقِّ الذي يأبى المستبدون من  أنصاف البشر أن يجعلوه غلاًّ في أعناق رعيّتهم من البشر الكمّل أو الملائكيين من الناس الذين قد يكونون في مغارةٍ ضمن مفازة الظلم الواسعة خاصتهم
كذلك يبقى النقش كأنه نقش العميان على رخامٍ صاجيٍّ أو عاجيٍّ أو حريريٍّ متهالك القوى
و كذلك يبقى أو ..أو لا يبقى
و قد أتت من الأرض تلك الخاوية الخالية تنصبغ بالترب التبري و الأريج الأقحوانيِّ و الشذى الدخاني الخاص و المعقم من شوائب الدهر اللعينة الساقطة
هكذا أتت إعصاراً خريفياً أو شبه خريفي
هكذا أتت تميط اللثام عن مفاصل القصة و سلاماتها
هكذا أتت مدبِرةً لا مقبلة
أتتْ تعانقُ الريحَ الجنوبيّةَ
و نسائمَ الفجرِ العقيقيّة
و صوتَ نغمٍ هادئٍ متزِنِ الخُطى يشبهُ الليلَ هدوؤه
 و رقَّتُه تشبهُ نسيمَ الفجرِ المتَّئِدْ
وهكذا أتتْ و لا تُريدُ أن تأتي
بل أن تجيءَ مجيئاً كما يجيء الربيع.

فحرّكتُ شفاهي كطفلٍ يتعلّم النُّطقَ أنوي التحدُّثَ إليها
و قد كنتُ قبل ذلك متكلماً فصيحاً ذرِبَ اللسان
 بليغا لا يُعيِيهِ الموقفُ الحرِجُ
 و لا تعجِزُهُ المنابرُ في الجمعِ الغفيرِ من السّاسةِ و  القادةِ العسكريين فإذا بهِ عييٌّ لا يكادُ يُبينْ.

أتت تكشفُ عن نفسي و كأنّها ترنو إليّ بعيونٍ ملائكيّة لا بشريّة
فحوّلتُ نظري و لكن ما حوّلتُ عيونَ قلبي عن طيفِها
 و لا فؤادي عن روحِها
أتبعها كل صباح و مساء ما رقّ من شعري و عذُب لحنُه فطارَ كشُعاعٍ بنفسجيٍّ تم صنعه من ماءِ الوردِ و حجرِ اللازورد.

أتت تميسُ غزالةً , فاكتحلتْ بذلك الأرجوانِ النَّديِّ
 واتّشحتْ بخيوط الشمس الذهبية في الضحى
ترد عنها عيونَ كل حاسدٍ و شرير .

فرأيتها كعرائس البحر الأسطورية
تسير فتكاد لخفتها و رقتها تطير.

و أنا أكتب عن أيام مضت و انقضت
فليس لي منها سوى ذكرى حلوة مريرة
أو حلم أزيد غموضه بسوء تفسير , أو جهلٍ بتعبير..

و هكذا كانت بداية البداية...
و ها أنا في هذه الليلة و قد كادت السنة الثالثة أن تنقضي على لقائنا الأول مسدلةً على القصة ستار النسيان الشفاف رأيتها و ما رأيت يم لقائنا فتاةً أعجبت بها أو فتنت بحسنها و جمالها و رقتها و طلاوتها بهائها حسن طلتها
ما كان ذلك أو قد كان و لكن لم أتلفت له
ولكني رأيت التي بت أراها يقظة و مناماً عشرين عاماً أو تزيد كنت أشعر بأنفاسها على طول العقدين المنصرمين
ما كنت كل تلك أضغاث أحلامٍ و لم تك مجرد أوهام و خيالات و هواجس تمر و تنقضي كما تمر غيرها
لم تتلك المرأة مجرد فتاةٍ أعجبتني فأردت نوالها بصحبة أو علاقة مشروعة أو لا
ولقد كان ذلك  و لكن
هل كان ذلك و حسب!!
لقد كنت –ولازلت- أوقن أن بين جنبيها نفسٌ هي نفس التي مكثت أعواما طولا بصحبتها أكلمها و تكلمني صباح مساء
كان كل ما يدور حولي في هذه الفترة يؤكد ما أنا بصدده من ظن و حسبان و لكن لم أكن لألتفت كليا لإشارات من الطبيعة و ما وراءها لأجزم بالقدر و لكن بت أوهم نفسي أن كل ما أرى وهم لا صحة لوجوده و لا ثبات و لا ديمومة و أنه لا محالة زائل ممح مندثر كما كان شأن المئات بل ربما الآلاف من قصص الغرام و أحادي الود و النجوى و الوئام و الهيام و ربما الخصام في منصرم سني حياتي التي قضيتها متعمد الخوض في البحث في هذا المخلوق الذي يدعى المرأة و في كنه ما ينعت بالحب أميز كل حالة و قالة و إشارة و عبارة ترسلها ذبذبات كهرباء الكون بين المجرات الجنسية و الأقمار العاطفية و الكواكب الحسية
لقد أتت إعصارا دمت في البحث عنه عقدين من الزمن أراه حتى في النسائم اللطيفة الرقيقة في الأثير في ضوع الأقاح بل و حتى ربما في رياح الموت و نفحات الخبث و النتن المفاجئ أو البطيء لا ظن النائل منها و إنما لأميز بين كل تلك و أقارن و أصف لمرتادي هذا المختبر في الأيام القادمة  واصفا مبينا في تقرير شبه رسمي دوري أو نصف دوري ما تكون العلائق بين العطر المركب و الأرومة التي منها تستقى أنواع العطور و النباتات التي منها تنتخب البخور و الزهور التي تنتج العسل الصافي و الفرق بينه و بين مربى السفرجل و التفاح الذي يظنه البعض عسلا
لقد كانت قصة حب طويلة فانتهت أو ربما لم ينهها القدر و إنما أراني ذلك مداعبة أو مزاحاً أو إعياء وإكمالاً لعمليتي في ذلك المختبر بالرغم من إجهاد الفكر و إجهاضه في المراحل المتأخرة من هذه القصة التي لم يكن فيها تواعد بين جسدين على لقاء أو حديث هاتفي أو نزهة في أيكة أو مرقص أو مقهى و لا حتى دردشة على خطوط الشابكة التافهة التي صارت مزار العشاق البغيضين في هذه الحقبة من الزمن حتى صار الحب علاقة الكترونية بما تعنيه هذه الكلمة من معنى   حب صور و أشباح لا حب أطياف و أرواح

و هكذا...

هكذا انتقلتُ من المعلومِ الخياليِّ إلى المجهولِ الواقعي

و هكذا انتقلتُ من الشُّعورِ إلى اللاشعور

 و من كتابةِ الشعر إلى كتابة النثر
و هكذا
هكذا انتقلت من الحسِّ الرقيق, إلى الواقعِ المريرِ الصَّفيق

هكذا انتقلت من الحبِّ بلا دنيا , إلى دنيا بلا حب.

و هكذا
انتقلت من رحمة الله إلى رحمة الله. و هكذا...

هكذا انتقلتُ من المعلومِ الخياليِّ إلى المجهولِ الواقعي

و هكذا انتقلتُ من الشُّعورِ إلى اللاشعور

 و من كتابةِ الشعر إلى كتابة النثر
و هكذا
هكذا انتقلت من الحسِّ الرقيق, إلى الواقعِ المريرِ الصَّفيق

هكذا انتقلت من الحبِّ بلا دنيا , إلى دنيا بلا حب.

و هكذا
انتقلت من رحمة الله إلى رحمة الله.
مع تحيات: الموقع الرّسمي للأستاذ ابن نزار الدمشقي

الفصل الثالث

0




 


معاناتي في صد الحبيب و قسوته و عناده تزيد قلقي قلقا و ارقي أرقا و تستشري فتبعث الفوضى في مدارك الجزء الأرضي مني و تصاب كثيرا بالورم  فتؤثر على جزئي السماوي و الذي صار في هذه الآونة اغلبي إن لم يكن كلي
فبعد لان عقدت القران بين روحها و روحي صار العذاب مضاعفا  غير مقتصر على ما كان عليه سابقا
المستقبل عندها أكيد و اليوم عندها يزيد فلا يوم و لا مستقبل و لا أمس  و لا نجوى و لا نداء و لا همس يرحم الله من الميت  كم يكون شاعرا في الرمس
الفصل الثالث  ها إنا اكتبه أثناء الفصل الثالث  الذي فصل فيه الروح عن الجسد





مع تحيات: الموقع الرّسمي للأستاذ ابن نزار الدمشقي

الفصل الثاني

0




ذنبي...
هو جل ما يعيق مسيرتي الكفاحية الطويلة الشاقة  في هذا الزمن الأخير أو المتأخر في هذه الفوضى العارمة
و بعد حيرة طويلة و ضياع مزعج مستمر  و شتات و قلق  ووسط اضطراب الفتن  و تقلقل البلاد و غليانها و إقدامها على أتون حرب مدمرة ساحقة صاعقة تأتي في كل يوم على ما يعترض دربها من شجر و حجر و بشر
بل حتى الأسماك الصغير ة الضعيفة  و القطط الجميلة الأليفة  و الطيور المغردة البريئة  لم تنقذها مسالمتها و لم تشفع لها الفتها و وداعتها
فحرت و اضطربت كما حار الشعب و اضطرب و لبثت مليا أطالع صفحات السماء أقرا رسالة خطتها يده على حاشيتها  اردد الطرف في أنحاء السماء  و في أرجاء الطباق  لا يعود طرفي إلا بالملالة و الحسرة و الانكسار الشديد و أعاود المحاولة ثالثة و رابعة و خامسة كي تبوء كلها بفشل ذريع و أمل صريع
ففي أحوال كتي أرده على قراطيس الامواه الجارية أو الراكدة و في  زوايا المكان و أنحاء الزمان و على صفحات الأوجه المستعارة أو الحقيقة
حتى يصل بي الأمر إلى مستنقع جميل أخاذ أو بركة منخفضة الجدار في دار عربية قديمة
اهرب منها كلها حتى اجعلها تطاردني بعيدا في حقول الذرة الصفراء و البيضاء و بين سنابل القمح اليابسة و في الأغصان الشوكية ضمن البساتين اليانعة لهذا الحبيب المحتل الغاصب فتارة اركض طفلا خائفا مرتعد الفرائص احمرت أحداقه و خلع قلبه و أيقن بالهلاك
وطورا كغلام شقي  يعبث في حقل جيرانه ويسلو بمطاردة ناطور مسكين متخفيا مرة وراء شجيرة ورد اصفر أو ارجواني  و مرة خلف جدار قصير يحاول التمطي مترفعا عنه حتى يلمح صلعة ذلك العجوز أو عصاه مهرولا صوبه
حتى يعييه فيعود لاستجداء مطارد من كرم آخر
و هكذا دواليك حتى تراوده نشوة الشعور بالنصر لترحم أولئك الضعفاء
 أما في بعض أوقات السرور أجده حال سمكة صغيرة في حوض اسماك الزينة يتلاعب بأسماك الحوض بأسرها بين مطارد و مطارد فيختبئ تحت الرمال تارة و أخرى و راء  الصخرات الصغيرة حتى ليخيل إليها أنها في بحر هدأت أمواجه و شعت أنواره و صفت ماؤه و شفت جدرانه  حتى ليرى المخلوقات على جوانب ذلك المحيط
كيما تسعدها في لعبتها تلك
وحدتي و غربتي و عزلتي و انفرادي كل  ذلك و أنا ضمن خليط فظيع من العناصر الاجتماعية تجعلني في إحدى حالتين يذيبني حتى أتلاشى من هذا الجو أو تجمدني تجمد مشاعري و أحاسيسي و كل قواي حتى لتفصل الروح عن الجسد
و بكلا الحالتين  لا أرى المؤدى إلا التلاشي  و الانفصال والانحلال
فارتب مفردات قواميسي من جديد  و أحيك مؤامرتي على ذاتي  و اقلب الخطط و المخططات رأسا على عقب  أذوب و أعود أطير و ارجع لأسافر  و أعود أتلاشى و أعود أتخبط انزوي أعربد أتمرد اضمحل  حتى أمارس كل فعل أثبتته العربية أو غيرها من اللغات و أعود
هنا أجدني ابذر بذاري في صحراء الجليد لتنبت النخل الباسقات و الكرم اللذيذ و التين و الزيتون و في غضون أيام
قد يكون ذلك عن الفلاسفة و علماء النفس إحدى علامات الغباء وعند الحكماء احد مؤشرات الجهل
إلا انه عندي من علامات النبوغ و العبقرية و دلائل ----------- و --------
فأمل لا يعرف الملل و تفاؤل لا يدرك معنى الخيبة او الإحباط و الهزيمة
حماقات البشر و ترهاتهم و بلاهة المنطق وبلادته و محبطات الأرضيين و خلودهم إلى الأرض
و ارتقاء السمائيين  و تعصبهم للسماء يشدني أولئك و يرفعني هؤلاء حتى أكاد أتمزق بين الأرض و السماء
سفري نحو الوراء و طموحي لاختصار الدهر كله بأعوام قليلة مقارنة مع طوله
و شد أهل الوراء و دفع أهل الأمام
يزعجني و يربكني و يقلقني حقا
فكيف لا أقع بحيرة كتلك و أنا في حال كهذه لا تسعد و لا ترضي
حقا كيف لي ان اجمع بين الأشتات  و أؤلف بين المتناقضات و ما انا اله و لا حتى نصف اله و لست بنبي مرسل و لا ولي ذي كرامة جليه او حجة واضحة مبينة
كيف كيف !!!
الجنة التي في عقلي مذ ولدت و الجحيم الذي أحياه مذ بلغت
النعيم الذي اطمع بلوغه  و العذاب الذي يحيطني من كل مكان
الحياة الحية و الموت المر
 التراث الأصيل و المدنية اللعينة
الدين القويم و الأخلاق النبيلة  و المحافظة
و التفلت و الإباحية و الاتباع الأعمى للغرب!!!!
كيف قل لي كيف!!!!!







مع تحيات: الموقع الرّسمي للأستاذ ابن نزار الدمشقي

الفصل الأول

0


فاصبر على ما يقولون و سبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس و قبل غروبها.
الحمد لله المحمود الأجل , و الصلاة و السلام على حبيبه و آله الأطهار و صحبه الكمل , و بعد :
   فها نحن نشرع بالكتب على طريق الخروج من الزمان و قد كاد أن يتوقف بنا قبل و التمرد على المكان و التجرد مما يغزونا ونغزوه وكان كل ذلك قد حاصرنا
   و لا تعلم نفس ما أخفي لها من قرة أعين و ما تدري نفس بأي أرض تموت
   و لما أن صار بنا المطاف إلى رابية لا شرقية و لا غربية يجبى إليها من كل الثمرات و رزق ربك خير و أبقى , و حال بنا الحول إلى ما لم نكن نبتغيه و لا نؤمله و ألقت الحبيبة عصاها و استقر بها النوى و ذهبت أو كادت بالذي أنا صانع
   أقضّ مضجعنا مجاراة الكبراء من قومنا و مجاذبة العظماء من سلفنا  و رحنا نلهث وراء كل فلا نبلغ الجزء و لا يدركنا الكل هنالك
   و بعد أن امحت تلافيف دماغنا و الذي كان قد اختزن فيها طوال هذه العقود جزعنا و ما كان الجزع ليقرب أمثالنا و فارقنا الصبر و رحنا نبتغي  في كل حلقة  و لا نلقى ثمة أمر و تاهت بنا الدروب و تشعبت و ضلت مسالكها النوق و نخت و تصعدت وهام في بيداء العلوم فكر و تاه في فيافي الغرام قلب و ضاعت بنا النفس في مسالك الحال وجالت بنا الروح كل مجال  و نحن نتشوق في كل لحظة إلى ما هو أسمى و أشرف و نتطلع كل ليلة إلى ما هو أعلى و أترف فننسى ما كان فيها من الليلة الفائتة ...بعد كل ساعة  ما سمت بها النفس  حتى تراه قد صار في الأعماق و كنا أو كدنا نبلغ الثريا و تتواضع لنا النجوم في الآفاق

   حتى آل بنا الأمر إلى عزوفٍ عن بث القلم شكوانا أو رأينا أو شعورا و سيطرت الوحشة بيننا وكاد شرا مستطيرا ثم حرنا في التقرب له و طار بالتباعد عنا و صرنا إلى ما صرنا إليه و بلغنا ما كنا نتخوف و نخشى منه ومنا و عنه و عليه
   و لزمنا كتب القوم نتصيد منها الفوائد و بدأنا من أقدمهم  نتحين وقت صدور الموارد و كان لنا و من الجاهليين صدقات و هبات و أعطيات  فما كنا لنرتضيها  وأزلف لنا الإسلاميون بالنذور و الهدايا فما قبلناها ثم كان المولدون و ما نحن و ما هم  و ما لهم فضل علينا إلى قربهم من الرعيل الأول و السلف الأمثل  و قرب عهدهم بالتنزيل
   فكانوا قد عاشروا أهل الحضارة و سمعوا منهم و شافهوهم  و كانوا الآخذين عنهم ما يشذبون به الألفاظ و يتزيدون به من المعاني التي تكون على قارعة الطريق كما يقول الجاحظ و إن كنا نخالفه الرأي في بعض جوانب ذلك
   و المهذرمون منهم على ذلك كثر و المتفيهقون المتشدقون أكثر فما التفتنا إلى رجل منهم و لا أعرنا ناظرا و لا سمعا
   و ما فضلهم علينا و ما الفضل في قريحتهم على قرائحنا!!إلا أنهم أخذوا بأقل مما نأخذ فيه و أحاطوا بأحقر مما نحيط به و ما نحن و هم إلا كفرسي رهان  حاز الأول قصب السبق إلا أنه كان وحيداً و يحوز الآخر السبق كله و يصير فريدا..
   و لا عجب منا أن نفضل قرننا على ذلك القرن أو نعلوا بعهدنا على عهدهم و أنى يكون العجب و قد قضى سيد الخلق أن الصديق منا بسبعين منهم بل من صحبه عليهم منا صادق التحيات و السلام فما الاختلاف لعمروك بالسبق و إنما بالزمن
الزمن الزمن الزمن
   هذا ما توصلنا إليه في نهاية المطاف أنفة و رفعة و عن هؤلاء و تقربا بل اقترانا من أولاء و في طريق السفر عبر الزمن و نكاد نبلغهم إن لم نسبق أمراءهم و أمراء الكلام فيهم هذا و على ما كان في دهورهم و مجتمعهم من تعظيم للكلم الفصيح و تبجيل للمعنى اللطيف و تقديس للشعر و قائله و إطنابٍ بإبداعه و إيمان بقدراته و حيث يكون  الشاعر المفلق والكاتب النحرير  فيهم مرفوعا على العلماء أو بعضهم مقدما على القادة و الأعوان  في مجالسهم و محافلهم حتى يكاد يكون بينهم قديسا أو نبيا ينطق عن السماء و الطبيعة و ما وراءها فينفث في روعه فلا يتكلم حين ينطق إلا وحيا عن السماء
   وقد تجد في زمانهم هذا من يهذرم و يقزرم بالشعر فلا يبدع و لا يبتدع و ينظم فلا يخفض أو يرفع  فذهب الشعر في العرب خاصة و اندثر الأدب و أثره في العالم عامة
   فلا تكاد تلقى في بلاد العرب كلها جرير عصره و لا فرزدقه أو بحتري زمانه و لا أخطله
   ولا تجد أفرادا صعاليك تسمو نفوسهم و ترتقي لبلوغ أدنى مراتب الشعر قديما
   و لما كان بعثنا في مجتمع كهذا و زمن كذلك من سقوط الهمة و انتشار السخف و الهوى و الرذيلة و المجون و آلى الجمع من ذوي القربى إلى الانتقاص من أمرنا و الحط من شأننا  و الغض من قدرنا و قدرتنا و الكفر برسالتنا و ضعف الإيمان بنا و بمذهبنا و عدم الصدق في طلب العلا و المعالي في مدرستنا
   و كان العامة على ما هم عليه من البعد عن الأدب اسما و رسما  و عزوف عن الشعر و جهل بوجوهه و أضرابه
أرشدنا الملهم سبحانه اتخاذ قرار مصيري بالرحيل
الرحيل الرحيل الرحيل
   الرحيل عن الزمان أولا و الابتعاد عنه و الضرب في جذور التاريخ و فيافيه الواسعة و مفازاته الشاسعة مصطحبين بعض الزاد من ماء و طلعٍ من باسقات نخلنا
   ثم الارتحال عن المكان و لذلك كيفية و ذكر لما نرشد إليه إما الرحيل الأول فكان صعب المقدمات اقتضت بديا إلى امحاء الذاكرة القديمة و الجديدة و ما كان  مما اشرنا إليه بعبارة سالفة عن ازدراء العامة و الخاصة و الحط من شاننا مصداقا لقالة الحسن ازهد الناس بالعالم أهله أو جيرانه
   ما كان من كل ذلك سوى الرفع من الهمة إلى مآل لا يسمو العقل ولا يبلغه الفكر و لا يرقى إليه الحدس لقد كان لنا ذلك كالنار تبرز الذهب الخالص  و تنقيه و تنفي عنه الشوائب و الو الكدر..
   هذا ما كان منا طيلة هذه الفترة المنصرمة التي قضيناها نجول في مقدمات الكتب المأثورة و الدرر المنظومة و المنثورة و الجواهر المكنونة و الخطب الفريدة و المقالات و الحكم المفيدة حتى اتينا على شيئ من ذلك كثير  وما هو بكثير  وسنلم بشيء من ذلك بعد شيء كما نحن في جولة في طريق العلوم الجديدة المبتدعة  و أخرى من القديمة أو المعاصرة المخترعة و ثالثة في الفنون و ألوانها  و أخرى من كل بستان و حقل  و أجمة وريدة أو وريقة ريثما يأذن لنا المولى بالسيطرة التامة أو شبه التامة على عرشنا الموروث الذي أسلمناه من قبل من أسلمناه.
    ذلك الحين الذي لا زلنا بانتظاره منذ عقود عديدة كادت ان تضني الجسم و أن تذهب بالنظر  و العقل من تأثيرها المميت الممقوت  حتى تبدت لنا الحكم العديدة و الإشارات القديمة و الجديدة إلى أن انتهينا إلى ما نحن بصدده و أين يقع في خط الزمن في المخيلة المحتلة التي دمرت عن آخرها  بأثقل أنواع الأسلحة وأشدها فتكا.
فانظر و إن كنت مكفورا بقدرته
هل شابه الشمس في إشراقها زحل!!

   فنحن بعون الله وحمده و تصريفه و تسييره  و مدده و إرشاده نحبذ منذ اليوم الإمساك بهذا القلم  و التصرف بفنون الكلم و بديع النثر و النظم كما لم يجده احد من المتقدمين أو المتأخرين على حد سواء بأسلوب و فن هو فننا و أسلوبنا لا غير غير متبعين في ذلك مذهب احد من العمالقة و لا خائضين في جداول الصعالكة ومستنقعاتهم القذرة شرقيهم و غربهم

و بعد عمر طويل قضيناه في التجربة و الخوض بأخبار الناس و أشعارهم بديا ثم في علوم الحق و علوم الخلق ثانيا
ففي ذلك المنهج الموضوع و المذهب المتبع و الدرب الواضح و اللحب المضاء بنور الحق  و رضا الوالدين و تحت تأثير الأميرة و سحرها  و نور وجهها و ثغرها  وفتور أهدابها و ألحاظها  و حدة صوارمها و بأسها كانت      ------- ذلك المذهب المذهب  و ترصيعه بألوان الوشي  و أصباغ الديباج و الرقوم الرفيعة و العريضة  الواسعة الضيقة الجامعة لمتناقضات العصور
حتى كان كما أسلفنا بعد إنهاء المرحلة و البدء بالخوض في بحور العلم
و كان أن تذكرنا اليوم قول الشعر
فديتك سيد الشعراء ربي
 و قبل البدء لا الملك الضليل

و من ثم مر في خلدنا  لما قرأنا في ترجمته أن الشعر يبدأ به و ينهى بنا



مع تحيات: الموقع الرّسمي للأستاذ ابن نزار الدمشقي

جميع الحقوق محفوظه © ابن نزار الدمشقي

تصميم الورشه