عود على بدء

0

هذا يومٌ لم يزلِ البين فيه يقضُّ مضجعي و يهوي بعزيمتي و يسرق من مشاعري ما أعرفه و ما لا يتبين حتى مع الرجل الحكيم ذي النظر النافذ و الإحساس المرهف و الإلهام الذي يعلو كلَّ إلهامٍ في بني البشر إلا إلهام النّبيين و أولياء الله المقرّبين
هذا يومٌ اهتزّت به شجرة طالما اعتنيت بها و سمدتها و أزلت عن تربتها كلَّ أذى و عن أغصانها كل قذى فأتى الربيع و لما تزهر شجرتي و حال عليها الحول و لم أر لها ثمرا ناضجا حلواً يذوب كالصَّمغ في الحلق قبل المضغ أجعله قوتي لي و لأهل بيتي و أرائي به كل عدو و حاسد و عذول
هذا يومٌ ما عرفت أنه يوم حتى أتى صباح غده و لم يك لي فيه قوة و لا حول إلا ما أمدني به رب الوجود الذي ملكني بفضله ملكاً أكاد احسب أن لم يكن لأحدٍ من قبلي حتى رأيتني لا أبدله بتاجٍ مرصّعٍ يعقد لي على أطراف الأرض و أقاصيها و أصقاعها كلها فما أن بلغت ذلك المقام بحوله وجدتني أزهد حتى فيه خوفاً من حياةٍ لا نهاية لها و لا حد يصلى بها الكافر في الجحيم إلى الأبد ذلك المعنى الذي لا يكاد يستطيع إدراكه عقلنا نحن البشر في هذه الحياة الفانية التي مهما طال فيها عمر الرجل فلا بد يوم على آلة حدباء محمول خارجاً من هذه الحياة منتقلا إلى دار الخلود التي لا فناء فيها و لا رقود و لا زمان فيها و لا سنين فأيُّ الحياتين أحقُّ أن نوليها منا اهتماما و انشغالاً أهذه الحياة الأبدية السرمدية أم تلك التي لا يساوي ملكها عند مالكها جناح بعوضة و لو ساوت ذلك القدر الضئيل لمنعها عن عدوه !!
هذا يومٌ استكملت فيه -أو كدت- الخروج عن هذه الحياة الماديةَّ التي لا بد للمؤمن  من خوضها حتى يلتحق بدار السلام التي يدعوه فيها ملكها بـ "من الحيِّ الذي لا يموت إلى الحيِّ الذي لا يموت"
بهذا اليوم الذي كنت قبله ألهث ثلاثين عاماً حتى أبلغه فأشمخ بكمال الأسطورة التي رسمت لي معتزا مفتخرا بذلك العرش الذي وهبته فأنقته و زينته و زركشته وأوشكت فيه على استلام الحكم الذي قدر لي و تنفيذ المهمة التي أنيطت بي و البدء في إشهار سيف دولتي و رفع راية الحقِّ الذي طفقت أتعلم أبجديتها طوال تلك السنين
حتى إذا بلغت ذلك اليوم وتبصَّرت فيما يكون بعد إتمام هذه الأسطورة الغريبة المحببة التي أضحت قريبةً من كلِّ نفسٍ و تساءلت فيما يكون بعدها المصير و إلام يكون المنقلب و هل أكون إلى فوز كبير أو إلى خسران مبين ذابت عندها تلك القصة الكاملة كما يذوب الشمع في النار و رحت أتفكر في قدرة القدير و عظمته و جبروته رحت أستجلي قدر عقابه و شدة عذابه و جليل انتقامه و عظيم بطشه فيمن كفر و ارتدَّ عن الصِّراط الذي هداه فنكب عنه و ارتدّ إلى هواه و اتبع شهواته وأخلد إلى الأرض فما انتفع بعلمه و لا بما آته الله من فكر و رأيٍ و عقل
وظللت كذلك ليل نهار أكاد ان ارى جهنم و أحس لفحها و أتخيل ذلك الموقف العصيب الذي يفر فيه المرء من أمه و أبيه بل و يفتدي المجرم من عذابه بأخيه و صاحبته و بنيه
ذلك يوم بتُّ أتفكر بأهواله حتى جننت أو كدت فانطرحت أرضاً حتى صار العذاب عذابي لا يقارن بعذابٍ في هذه الحياة الدنيا  أقول ذلك و ليس قولي من باب الإغراق أو المبالغة الشعرية أو الأدبية وإنما لو قيس عذاب الفكر بذلك اليوم بأشدِ عذاب في الدنيا لكان هذا دونه
وأنا الذي كنت أثق بعفو الله و غفرانه و لكن ...
و لكن ماذا لو أنَّ هذا الاتكال كان تواكلا و ماذا لو كانت هذه التقوى رياء و ماذا لو كان ذلك الإيمان باللسان لا في القلب ؟؟!!!
ماذا لو كان و ماذا لو كان و ماذا لو لم يكن
فمن ينجيني من هول موقف لا تكون النجاة فيه إلا بيد واحدٍ أحد !!
فلقد أمسيت أتخوف من العلم بعد أن كنت نهما فيه لا يكاد الكتاب يفارقني حتى خلال نومي سويعات أو تناول طعامي دقائق معدودات فإن كان ذلك فلا بد أنني تاركه للتفكر في محتوى واحد أو نقد آخر أو إعجاب بثالث أو في رسم قصيدة و استنباط معنى جديد يكون في جيد الأدب جوهرة يتيمة و صرت أحسد العامة وأشباه العامة على سذاجتهم حتى لكثيرا ما أتمثل قول أبي الطيب :
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
و أخو الجهالة بالشقاوة ينعم

أمَّا الحبُّ ...
    ذلك المعنى الروحاني الشفاف الذي طالما قد كان لي المتفسح الوحيد إذا ما أثقلتني الهموم ففررت إليه حتى من همومه
    و لجأت و احتميت بأسواره و حصونه معتصما بحبل الله و محبوبتي التي لا يكاد طيفها يفارقني و لا أفارقه فقد بات في هذا اليوم شبحاً ضبابيا رماديَّ اللون يكاد فوق البلاط الأسود يسيل
و أرهقت روحي أيما إرهاق و انزويت عن المحبين انزواء جديدا و أبعدت نفسي عن مجامع العشاق و رحلت دون طلب الرحيل و استنزفت قواي دون طائل و لا ميل وفي كل ناحية وعلى كل قبيل
و صارت أية عادة أعتادها لئيمة كريهة مشئومة و كل إشارة أتلقاها و لو كانت كل البشر لهي في مذمومة أتلقى المراسيل من الشياطين والأبالسة و قد كنت بالأمس أستلمها من الملائكة استلام اليد باليد  فأي عذاب إلا و هو العذاب الذي فيه أقضي ديمومة مطلقة تقضي على أجزاء التفاؤل المصحوب بالخجل و تحيل كل رائحة في أنفي رائحة نتن مميتة إن لم يقتلني التبغ كادت هي القاتلة
عذاب ما شهدت على ما عانيت من كل عذاب له نظيرا و لا شبيها
و علمت حينها و تيقنت انفصال روحي عن البدن حيث أنّّ هذا في النعيم مقيم و تلك في العذاب الذي لا يفارقها و لا تفارقه النكال الأليم و تعاظمت الهوة في كل لحظة فيما بينهما حتى صارا عدوين لدودين
و استنزفت قوة القلم و مداده ذلك السائل الإبريزي و أشعة ضوئه الفضية المنسكبة على كراسات العلم و المعرفة و الحكمة العالية الرفيعة و ابتعد عني و ابتعدت عنه و وجل مني و أغضيت منه فما يجمعنا يقظة و لا منام و صارت كل بشرى و إشارة لديَّ هي بمعنى نذير الشؤم لا أستطيع تبينها و لا قراءتها إلا كذلك و احترت فما تنفك الحيرة ملتصقة بي
و هام كل مجد أدركته أو أنا موقن بإدراكه و ابتعد و تلاشى فما عاد له في ذاتي معنى ولا هيئة و لا رسم
و زهدت بكل لحن عزفته و كل لوحة أبدعتها و كل مصنف و مؤلف و نظم فما يحبب إلى نفسي شيء و قد أحبت قبل كل شيء تلك النفس التي كانت ترى في عدوها  صديقا محتملا مرتقبا و في عذابها نعيما اقتربا
و في فقرها غنى و في بؤسها هناءة و في البين و صلا و في القرِّ عافية و في الحمى مطببة شافية و في البعد قربا و في الذل لله عزا رفيعا و في الانحناء له  حصنا منيعا
تلك النفس التي أضحت لا تعلم للتشاؤم رسما ولا هيئة باتت لا تدرك للتفاؤل معنى و لا صورة
فأين غبت كل تلك وأين راحت ثمَّ أين أين؟!
ربما أنك لا تصدق لو قلت لك أن القمر الذي كان يوحي لي قصائد و فرائد في الحب و الجمال و الفلسفة و الدلال أمسى أحد أسباب تشاؤمي و انفلاتي في حظيرة العذاب و إن شعاعه ذلك الذي كان يذهب عني في الصيف حره و في الشتاء قره فيسبغ علي حلة و رداء جميلا جليلا في ظاهر جسدي و في فؤادي و على قلبي و أوردتي و أعصابي و أهدابي حتى على ألفاظي و أنغامي لما أدندن بها أو أرسمها على بريق شعاعه المنبعث في الدجى لقد صار هذا الشعاع كأنه وهج جهنم على روحي قبل جسدي و على حشاشتي قبل ظاهر جلدي
نعم النجوم التي كنت أعدها لأهدي كل واحدة منها لحبيبة أحببتها في ماضي سني حياتي أو أنظم منها قلادة أو سبحة أجعلها في عنق حبيبيتي لقد صارت كأنها لي شهابا رصدا يذيقني من عذاب أليم فيدمر كل ما لي و كل ما أتيت به  أو خلفته ورائي حتى الشمعة التي كانت طالما ترافقني في ليالي الطوال أناجيها و أناغيها و أبثها تارات ما بي من حر الجوى و أطوارا ما اجد من وجدي للحبيبة أو من ألم في هجرانها أو أعلمها الأمل و تعلمني الصبر و التضحية فيستخلص كلانا في كل سهرة كتابا جليلا قد ينشره في الضحى كل منا في أمته فيقرؤوه ويفيدوا منها ما لم يفده كائن بشري و لا كائن شمعي
تلك الشمعة أمست لي رمزا للعذاب و آية في احتراق القلب و الروح معا في غابة تتحد فيها أغصان أشجار الألم العظيمة
حتى الفراشة و العصافير و الأزاهير
شجيرات الورد و أغصانه المائسة
شمس الضحى الدافئة
الأسماك الصغيرة و القطط الوديعة المحبوبة و الطفل الوليد الرضيع
في أثناء كل ذلك و حنايا و تضاعيف كل تلك أقرأ علامة الشقاء و التعاسة المستديمة التي لا مناص منها و لا نجاء
حقا أقول لقد عشت خارج هذا السور المكاني المحيط بنا الذي أسلفت عنه في بدء كتابي هذا و لم أكن قد تخيلت و لا ألهمت و لا توقعت حينها أن كيف سأخرج عن هذا الإطار الهوائي الشفاف المكتنز العريض
تاركا ورائي جسدا فانيا تسري به بقية من روحي لتبقيه على بقية من الحياة و لو أنني أقولها على المصطلح المتعارف عليه فيما بين البشر إلا أني لست اجد لذلك حقيقة عندي و إنك لتجد في النائم خروجا لروحه يسمى موت جزئي تكون فيه الروح خارج جسده بمقدار تبقي فيه رمق الحياة إلا أنك لو آذيت جسده و لو بطرف دبوس لانتبه من غفوته تلك بل حتى لو أدنيت من عينيه مصباحا لرأى في منامه ربما أنه ينظر في الشمس أو قربت منه شعلة لرأى أنه يتحرق بنار و ما شاكل ذلك في حالة النوم و مفارقة الروح الجسد
أما في الانفصال الطارئ عليَّ فما عدت أجد مما يجده النائم في حالاته تلك شيئا
و ليت شعري فمن يكترث لكل ذلك ممن حولي حتى أنني ما عدت أجد ذلك الحبل المتصل بيني وبين قرائي الذين كنت أبثهم جل ما يحل بي بل أقول و ما عساهم نافعي أو مخلصي من تلك البلوى و ذلك المصاب و الوصب
و بعد أن عدت من تلك الرحلة الزمنية في أعماق التاريخ و أدراجه  غائصا متشعبا بين رجالاته و خرافاته و ما اجتمعت بكل ذلك على من قد أصيب بمثل مصابي و لا ذاق شيئا من فوادحي و أوصابي

مع تحيات: الموقع الرّسمي للأستاذ ابن نزار الدمشقي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جميع الحقوق محفوظه © ابن نزار الدمشقي

تصميم الورشه