الفصل الرابع

0




و كذلك هو نقش الخاطر إذا ما تمّ في ظلامِ الأسر و وحشة العبودية و ذل الرقِّ الذي يأبى المستبدون من  أنصاف البشر أن يجعلوه غلاًّ في أعناق رعيّتهم من البشر الكمّل أو الملائكيين من الناس الذين قد يكونون في مغارةٍ ضمن مفازة الظلم الواسعة خاصتهم
كذلك يبقى النقش كأنه نقش العميان على رخامٍ صاجيٍّ أو عاجيٍّ أو حريريٍّ متهالك القوى
و كذلك يبقى أو ..أو لا يبقى
و قد أتت من الأرض تلك الخاوية الخالية تنصبغ بالترب التبري و الأريج الأقحوانيِّ و الشذى الدخاني الخاص و المعقم من شوائب الدهر اللعينة الساقطة
هكذا أتت إعصاراً خريفياً أو شبه خريفي
هكذا أتت تميط اللثام عن مفاصل القصة و سلاماتها
هكذا أتت مدبِرةً لا مقبلة
أتتْ تعانقُ الريحَ الجنوبيّةَ
و نسائمَ الفجرِ العقيقيّة
و صوتَ نغمٍ هادئٍ متزِنِ الخُطى يشبهُ الليلَ هدوؤه
 و رقَّتُه تشبهُ نسيمَ الفجرِ المتَّئِدْ
وهكذا أتتْ و لا تُريدُ أن تأتي
بل أن تجيءَ مجيئاً كما يجيء الربيع.

فحرّكتُ شفاهي كطفلٍ يتعلّم النُّطقَ أنوي التحدُّثَ إليها
و قد كنتُ قبل ذلك متكلماً فصيحاً ذرِبَ اللسان
 بليغا لا يُعيِيهِ الموقفُ الحرِجُ
 و لا تعجِزُهُ المنابرُ في الجمعِ الغفيرِ من السّاسةِ و  القادةِ العسكريين فإذا بهِ عييٌّ لا يكادُ يُبينْ.

أتت تكشفُ عن نفسي و كأنّها ترنو إليّ بعيونٍ ملائكيّة لا بشريّة
فحوّلتُ نظري و لكن ما حوّلتُ عيونَ قلبي عن طيفِها
 و لا فؤادي عن روحِها
أتبعها كل صباح و مساء ما رقّ من شعري و عذُب لحنُه فطارَ كشُعاعٍ بنفسجيٍّ تم صنعه من ماءِ الوردِ و حجرِ اللازورد.

أتت تميسُ غزالةً , فاكتحلتْ بذلك الأرجوانِ النَّديِّ
 واتّشحتْ بخيوط الشمس الذهبية في الضحى
ترد عنها عيونَ كل حاسدٍ و شرير .

فرأيتها كعرائس البحر الأسطورية
تسير فتكاد لخفتها و رقتها تطير.

و أنا أكتب عن أيام مضت و انقضت
فليس لي منها سوى ذكرى حلوة مريرة
أو حلم أزيد غموضه بسوء تفسير , أو جهلٍ بتعبير..

و هكذا كانت بداية البداية...
و ها أنا في هذه الليلة و قد كادت السنة الثالثة أن تنقضي على لقائنا الأول مسدلةً على القصة ستار النسيان الشفاف رأيتها و ما رأيت يم لقائنا فتاةً أعجبت بها أو فتنت بحسنها و جمالها و رقتها و طلاوتها بهائها حسن طلتها
ما كان ذلك أو قد كان و لكن لم أتلفت له
ولكني رأيت التي بت أراها يقظة و مناماً عشرين عاماً أو تزيد كنت أشعر بأنفاسها على طول العقدين المنصرمين
ما كنت كل تلك أضغاث أحلامٍ و لم تك مجرد أوهام و خيالات و هواجس تمر و تنقضي كما تمر غيرها
لم تتلك المرأة مجرد فتاةٍ أعجبتني فأردت نوالها بصحبة أو علاقة مشروعة أو لا
ولقد كان ذلك  و لكن
هل كان ذلك و حسب!!
لقد كنت –ولازلت- أوقن أن بين جنبيها نفسٌ هي نفس التي مكثت أعواما طولا بصحبتها أكلمها و تكلمني صباح مساء
كان كل ما يدور حولي في هذه الفترة يؤكد ما أنا بصدده من ظن و حسبان و لكن لم أكن لألتفت كليا لإشارات من الطبيعة و ما وراءها لأجزم بالقدر و لكن بت أوهم نفسي أن كل ما أرى وهم لا صحة لوجوده و لا ثبات و لا ديمومة و أنه لا محالة زائل ممح مندثر كما كان شأن المئات بل ربما الآلاف من قصص الغرام و أحادي الود و النجوى و الوئام و الهيام و ربما الخصام في منصرم سني حياتي التي قضيتها متعمد الخوض في البحث في هذا المخلوق الذي يدعى المرأة و في كنه ما ينعت بالحب أميز كل حالة و قالة و إشارة و عبارة ترسلها ذبذبات كهرباء الكون بين المجرات الجنسية و الأقمار العاطفية و الكواكب الحسية
لقد أتت إعصارا دمت في البحث عنه عقدين من الزمن أراه حتى في النسائم اللطيفة الرقيقة في الأثير في ضوع الأقاح بل و حتى ربما في رياح الموت و نفحات الخبث و النتن المفاجئ أو البطيء لا ظن النائل منها و إنما لأميز بين كل تلك و أقارن و أصف لمرتادي هذا المختبر في الأيام القادمة  واصفا مبينا في تقرير شبه رسمي دوري أو نصف دوري ما تكون العلائق بين العطر المركب و الأرومة التي منها تستقى أنواع العطور و النباتات التي منها تنتخب البخور و الزهور التي تنتج العسل الصافي و الفرق بينه و بين مربى السفرجل و التفاح الذي يظنه البعض عسلا
لقد كانت قصة حب طويلة فانتهت أو ربما لم ينهها القدر و إنما أراني ذلك مداعبة أو مزاحاً أو إعياء وإكمالاً لعمليتي في ذلك المختبر بالرغم من إجهاد الفكر و إجهاضه في المراحل المتأخرة من هذه القصة التي لم يكن فيها تواعد بين جسدين على لقاء أو حديث هاتفي أو نزهة في أيكة أو مرقص أو مقهى و لا حتى دردشة على خطوط الشابكة التافهة التي صارت مزار العشاق البغيضين في هذه الحقبة من الزمن حتى صار الحب علاقة الكترونية بما تعنيه هذه الكلمة من معنى   حب صور و أشباح لا حب أطياف و أرواح

و هكذا...

هكذا انتقلتُ من المعلومِ الخياليِّ إلى المجهولِ الواقعي

و هكذا انتقلتُ من الشُّعورِ إلى اللاشعور

 و من كتابةِ الشعر إلى كتابة النثر
و هكذا
هكذا انتقلت من الحسِّ الرقيق, إلى الواقعِ المريرِ الصَّفيق

هكذا انتقلت من الحبِّ بلا دنيا , إلى دنيا بلا حب.

و هكذا
انتقلت من رحمة الله إلى رحمة الله. و هكذا...

هكذا انتقلتُ من المعلومِ الخياليِّ إلى المجهولِ الواقعي

و هكذا انتقلتُ من الشُّعورِ إلى اللاشعور

 و من كتابةِ الشعر إلى كتابة النثر
و هكذا
هكذا انتقلت من الحسِّ الرقيق, إلى الواقعِ المريرِ الصَّفيق

هكذا انتقلت من الحبِّ بلا دنيا , إلى دنيا بلا حب.

و هكذا
انتقلت من رحمة الله إلى رحمة الله.
مع تحيات: الموقع الرّسمي للأستاذ ابن نزار الدمشقي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جميع الحقوق محفوظه © ابن نزار الدمشقي

تصميم الورشه