الفصل الخامس

0


و عاودت الحبَّ و معانيه و عاودتني أحاسيسه و خيالاته بعد ذلك طويلا و انهدم بين ذلك وذلك جسدي و قواي و صرت أطلب في كل ذلك مزيدا من هذا و ذاك لا أسيغه و إنما أمجه بعد إساغته و فيفيض بي نبعٌ عذب فرات سلسبيل يتيح لي من كل جانب و جهة مجالا و صولة أنال بها ما أنال من عذاب لذيذ و ألم مستحب لنفسي فأتوه على ذلك بين أزاهير الخريف الذهبية الجميلة و أنضوي تحت شجيرةٍ يابسة الأفنان تبعث في المزيد من الأشواق و الأشجان و كأنني ما ذقت من ذلك طول تلك الأيام و انبعث في الأمل جديد كأني ما ذقت من الأهوال شيئا أو كأن المحب قد كتب في تاريخه المستقبلي أن يبقى متنقلا يجوب و يخوض فيايفي الغرام و لجج الهيام لا يزيده كل ذلك إلا ظماً و لإي شيء إنما لما يظميه فيطغيه فيعود و يعود
و مشيت لا أهاب الخضم العتي َّ المصم و لا الليل البهي المدلهمَّ أن يضفي في نفسي شيئاً من شوقٍ إلى خوفٍ أو إلى حب تقهقر و انهزام من ميدان المعركة التي يقاتل فيها تحت لواء الولاء و الطاعة لخصمه يتبين له في كل جولة حبه لهذه المعركة و مناه في انتصارهما جميعا لا ترجح كفة لأحدهما في ذلك السبيل
فأي مجد ذلك الذي يسعى إليه المحب و أي عذاب يفر منه فيفترُّ ثغر الزمان عن ابتسام لهما بوطأة سيفه و صهوة جواده الذي لا يزال يحبو به نحو العلا حبوا
واستمر الطيف في الهجر القريب ذلك الهجر المعذب الذي يكون فيه الطيف هاجرا حاضرا و إنما يتستر بغشاءٍ من ذنوب المحب الحقيقية أو المتوهمة أو المدعاة من قبل الحبيب
و أفعى الشكوك بل وثعابين الوهم لا تزال بينهما تنفث سماً فيزيغ منه قلب الحبيبين
و لا تكاد تنير في تلك الظلم منارةٌ إلا و تسارع الشياطين في إخماد ذلك النور و إذهاب ذلك الأمل عن الدرب فيعودا لما كانا عليه
و يستمر الطيف في عتابه من غير أن يشعر محبه بوجوده بل يرسل كل ذلك عن طريق حديث نفسه و لومها مجنبا الحبيبة أو طيفها أي لوم أو عتاب و إنما ليبقى يعذب نفسه بنفسه و يجدد توبته فيتجدد أنينه من ذنبه الذي أتاه عظيما
و لا يكون و ربك الذنب عظيما و إنما كذلك توهمه الحبيبة أو الطيف أو هما معا ليعود فيعود
و كذلك بقيت طويلا من توبة إلى توبة و من عتاب إلى لوم إلى عذاب متنقلا متقلبا لا أفتئ كذلك حالي حتى خلال سويعات أقضيها متناوماً أو مدعي النوم
و كذلك يبقى المحبون....
و أي عذاب بربك أشق و أمر وأحر من ذلك العذاب الذي تدرك فيه أنك أنت المعذب المعذب لا تنفك تستلذ عذابك لنفسك و إيذاءك لها و إيلامك إيَّاها و كل ذلك أنت فيه أداة طيعة لطيفها المتواري عن بصرك و بصيرتك خلف ذلك الستار الضبابي الوهميِّ المتسدِّل على نور طيفها
و لكن...
حتام يستمر ذلك و حتام تطيعه و تنصاع لإرادته بل حتام يبقى متوارياً متخفِّيا بشيء هو من خلقه ليس له في الحقيقة وجود و إن كان له ثمة وجود فهل إلى إظهاره و إبرازه من سبيل في تلك الفوضى العارمة التي تجتاح أحاسيسك و كيانك و مشاعرك و كلك!!
إلا سبيل واحدة قد تستطيع فيها التخلص من كل ذلك في أن توحي لنفسك أن هبي من ذلك الذل و التصاغر أمام ذلك الجرم الذي أتيته جسيما
فتنسل من كل تاريخ قلبك كما ينسلُّ الخيط و ترميه وراءك ظهريا و تجثو هنيهة على قارعة ذلك الطريق أو تكبو على طرفه فتنتقي من أقدامك ما آلمك من الأشواك التي بت تدوسها برجليك غير مبال بل غير شاعر بإيلامها ووخزها إلا كما يشعر الطفل بدغدغة أمه في كفه تنسى كل ما مررت به من عذاب عذب و ذكريات حلوة طريفة و نفحات روحانية لا تستطيع أن تنساها حقيقة
و إنما تبقى في ذلك  لا تكل و لا تمل في البحث عن ذلك المخرج الذي أصف و أنت تداويها بالتي كانت هي الداء و إن كنت كذلك و تعتقد حينها أنها غير مدعية الحب و لا بائعة الهوى فتركد إلى النسيان أو الادعاء بذلك إن لم تستطعه فتسلو و تسلي نفسك حتى و لو كان السلو عنها بها و تريها منك ما أرتك حتى و لو لم تقدر عليه قلبا وقالبا أن تبديه في قالبك فقط
و استخدمت الدواء هذا الناجع الذي انتعشت بجرعاته الأولى و عادت لي البشاشة و السرور و القوة و الأمل
وانتحيت جانبا لا أصدق ما ادعي بل أقنع نفسي بكل ذلك رغما عنها حتى استلذذت به و قلت في ذلك سأقضي عشرة أيام بلا حب
فاعتزلت فيها الحبَّ و الطيف و الغزل و الذكرى و الطيف و الحنين و الشوق و كل أدوات الغرام و ألفاظ الحب و حتى الكتب التي تذكر في ذلك شيئا أو تعرض به و لو من بعيد في مديح أو إطراء ألقيتها في صندوق فركنته مع جملة الأغراض التي لا تعوزني الأيام لها إلا مصادفةً
عشت حياة رجل طبيعي أو لك أن تقول غير طبيعي
عشت حياة رجل خال من الهموم هموم الحب
و تركت نفسي على سجيتها ترسل وراء كل لحن رقيق شفاف يدخل من شقوق الباب الصفيق لدي في دار كتبي المظلمة الضيقة إلا عن الكتاب العريضة العتيدة
و أقعد وراء مكتبي فأنتضي اليراع شهاباً مستنيراً لا يذكر في أبجديته الباء لو سبقتها الحاء
كذي تاج و عرش و قصر عتيد و لكنه لا يحكم إلا نفسه حتى هذه فربما أنه يوهم نفسه إيهاما بحكمه لها
و لم أحتفظ من تاريخ قلبي إلا بالفوائد و العظات التي استقيتها من ذلك الدرب الطويل الذي قضيت فيه ربيع عمري و غرة شبابي فعجلت الكهولة إلى روحي و جسدي قبل دنو موعدها فحكمت الروح و الجسد









مع تحيات: الموقع الرّسمي للأستاذ ابن نزار الدمشقي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جميع الحقوق محفوظه © ابن نزار الدمشقي

تصميم الورشه