لماذا للكبار ِفقط !

1

لماذا للكبار ِفقط !
و أين أمسى الشِّعرُ و الشُّعراءُ

أعيدَ نشرُها في : 31-7-2013 م



   غِذاءٌ مُفيدٌ نافع ، و طعامٌ ذو مَذاقٍ رائع ، يتناوَلُه النَّاسُ مُستلِذِّينَ به تارة ً، و مقيمي أصلابِهم تاراتٍ ، قد يكونُ هذا الغذاءُ لِصغارِهِم سُمَّاً زُعافاً مُهلكِاً ، يُقيمُهم قي حُفرةٍ يستديمون ، بَدَلَ أن يكونوا بين أحضانِ أهلِهِم يَترَعرعون ، و في أكنافِ ذَويهم يُنشَّئوون .

   هذا المعنى الذي أوجزَهُ بالعبارةِ الأُسطوريَّةِ الخالدةِ أحدُ الفلاسفةِ الحكماء ، و التي لا زالت تتداولها ألسِنةُ العلماءِ و الفضلاءِ في كلِّ زمانٍ و مكان :" طعامُ الكبارِ سُمٌّ للصِّغار ".

  و إنَّي لما عزمتُ على نشـرِ دِيواني هذا ، فكنت في تفكَّرِ في طريقةِ صُنعِه ، و أسلوبِ دَفعِه ، عُنوانِهِ و شَكلِهِ ، و رُحتُ أُجيلُ النَّظرَ و الإمعانَ في حَيرَةٍ و طلبِ هدايةٍ و رشدٍ .
   ثم بِتُّ ليلتي و لا زالتْ تلك حالتي ، فلما غلبَ عينيَ النعاسُ ، أتاني آتٍ يحدِّثُني بحديثٍ أدبيٍّ راقٍ ، وقَعَ في نفسي الشَّيءُ الكثيُر من معانيهِ و ألفاظِهِ ، و أخذتْ منّي مأخذاً عجيباً لِحُسنِها و ظُرفِها ، فتساءلتُ في نفسي من تُراهُ يكون ؟!
فإذا به يباغِتُني بإجابتِهِ قائلاً :
   "أنا إمامُ أهلِ اللغةِ و الأدبِ" ، فقلتُ له مُنكِراً : ليس لنا إمامٌ في زماننا يا صاحْ ، بل و لا في أيِّ علمٍ أو فنٍّ ، يرجعُ الناسُ إليهِ بالقول ، و ينزلُ الخلقُ عندَ رأيه في حلِّ كلِّ مُعضِلة ، و يُسندونَ إليهِ الحُكمَ في الإجابةِ عن أيَّةِ مسألة ...
   و لو أنَّه وُجدَ ذلكَ الرجلُ لما أَخذَ أحدٌ من الأدباءِ و اللُّغويِّينَ برأيهِ ، و لا نزَل عند مشورتِه ، فكلٌّ في نفسِهِ إمامُ الأُمَّةِ ، بل عظيمُ الأئمَّة.

   فقال : إن أنا إلاَّ إمامُ أهلِ الأدبِ و سيِّدُ رواتِهِم في كلِّ آونةٍ و عصر ، بل و في كلِّ بلدةٍ و مِصر.
   فقلتُ له : إذاً لك العجبُ أشدُّ العجب ، و ما أظنُّكَ إذاً إلا صاحبَ موسى أو قريناً من أقرانِه، و إن كنتَ ذلك الرجلَ فأنتَ لَعمرُو الله بُغيتي و مَرامي ، فقد أشكلَ عليَّ ما أنا بِصدَدِه من عزمٍ على نشرِ هذا الديوانِ في عصرٍ عمَّتهُ الفوضى اللُّغوية ، فاعتدى رجلٌ و ادَّعى رُجيلٌ على فنِّ الكلام ، و ما لكلٍّ رادعٌ و لا زاجر ، و واهاً إذاً لقول الشاعر:
إذا هَــلـَكَتْ رِجـــالُ الحيِّ أضحى
صبيُّ الــقـــَومِ يحلـِـفُ بـالــطَّـــلاقِ

و أصبَحَ يــدَّعي بـــالسـَّــبـقِ جهـلاً
زَعــانِفُ يـعـجــَـزونَ عــنِ اللـحاقِ

فما أصنعُ فديتُك يا إمامْ ؟!
   قال : حَذارِ حَذارِ أن يصيبَكَ مثلُ ما أصابَ ذلك الشَّاعر ، الذي انقلب شِعرهُ و انكفئ قِدْرُهُ ، فقلتُ كيف حدث ذلك" ؟ قال:

   عندما  كانت رقعةُ الدولةِ العربيَّةِ بأوجِ اتِّساعِها ، و اختلاطِ العُجمِ بأبنائِها ، من فُرْسٍ و رومٍ و تُركٍ و إفرنْجٍ و بربر ، و ما إلى هنالك من الفئاتِ و القبائلَ الشَّرقيَّةِ و الغربيَّةِ المتاخِمةِ للحدودِ العربيَّةِ ، و أمستِ الأُمَّةُ خليطاً ممزوجاً من الأعراقِ و الألوانِ و الألسنةِ ، و كادتْ أن تنصَهرَ الحضاراتُ و الثقافاتُ و اللغاتُ في بوتقةٍ واحدةٍ مع العربيَّةِ ، فتؤثِّرَ بها على كلِّ صعيدٍ .

   و ظهرَ فسادُ السَّليقةِ العربيَّةِ لأوَّل مرَّةٍ مُنذُ فجرِ التَّاريخ ، و انتشرَ اللحنُ و الغَلَطُ بين أبناءِ الأمَّةِ ، و راحتِ اللَّغة تفقِدُ بريقَها و رونقَها على الألسُنِ ، و في الكتبِ و المؤلَّفاتِ المُصنَّفةِ ، حتَّى انقلب النَّاسُ إلى لغةٍ هجينةٍ مركَّبةٍ ، لا هي عربيَّةٌ فصيحة ، و لا أعجَميَّةٌ صريحة ، و إنَّما لغةٌ بينَ بين ؛ عربيَّةٌ مستعجِمة أو أعجميَّةٌ مُستعرِبة .
   و بدأ الفهمُ ينحسِرُ عن العامَّةِ و أشباهِ العامَّة ، فينحصرُ في الخاصَّةِ أو خاصَّةِ الخاصَّة مِن العلماءِ العاملينَ و الأدباءِ و المتأدِّبينَ ، و انتشرتِ العامِّيَّةُ على ألسُنِ النَّاسِ أجمعين ، فدخلتْ في بعضِ كتُبِِهِمْ و أدبِهِمْ ، نثرِهمْ و شِعرِهمْ ، محافِلِهِم مجالِسِهِم بل و دُورِ تعليمِهِم .
  فقد زعموا أنَّه كانَ في تلكَ الآونةِ أحدُ رِجالاتِ الشِّعرِ و الأدبِ ، و كان له ابنُ عمٍّ أميرٍ ، فوفدَ عليه  في يومِ اعتلائِهِ العرش، مُهنِّئاً مبارِكاً ، يُطيِّبُ نفسَه و يبعثُ الأملَ فيها ، بواحدةٍ من قصائدِه ، و أُعجوبةٍ من فرائدِه .

   و كان الشَّاعرُ على ما يقالُ أشعرَ النَّاسِ في ذلك الوقتِ أو من أشعرِهم ، و أعلمَ أهلِ الأرض باللُّغةِ و الأدبِ و التَّفننِ بالكلامِ أو مِن أعلمِهِم ، أمَّا الأميرُ و حاشيتُه من وزراءَ و قادةٍ وأعوانٍ ، فلم يكُنْ لهم أيُّ علمٍ أو معرِفةٍ بأوجُهِ كلامِ العربِ و أساليبِه و صُوَرِه .
   ولقد كان يدخلُ  على أسلافِهِ الشعراءُ بل المُستشعرونَ يُنشدونَهم من كُناسةِ الأقوالِ و الشِّعرِ ، ثمَّ يخرجونَ مالِئي أكفِّهم و جيوبِهم من الدَّراهمِ و الدَّنانيرِ.

   و لمَّا أُذِنَ لشاعرِنا ذاكَ قامَ فألقى قصيدةً من عيونِ البلاغةِ و المعاني ، و من أفصحِ الكلامِ و المباني ، وَصَفَ فيها حالَه و حُلَّتَه و أبانَ سُرورَه و نَشوتَه ، و أشادَ بأمجادِهِم ، و تاريخِ أجدادِهِم ، و عظَّمَ في النُّفوسِ نَسَبَهم و نِسبَتَهم ، ثمَّ أطنبَ إبداءِ حُبِّه و ولائِه ، و أغرقَ في مدى إِخلاصِه و وفائِه .

   و لمَّا أتى على القصيدةِ جمعاءَ , و امتلأتْ بنبراتِه و نغماتِها و إحساسِه و نفحاتِها الأجواء ، عقَّب كلَّ ذلك بما يناسبُ الموقفَ من ثناءٍ طيِّبٍ و دعاء ، ثمَّ استأذن من الحضرةِ و انصرفَ ، ليس يلتفتُ لإطنابِ مادحٍ ، أو ملامةِ عذول ، أو وِشايةِ حاسد ، غيرَ آبهٍ و لا هيَّاب .
   و امتلأتْ نفسُ الأميرِ بالبُشرى ، و انفرجتْ أساريرُ وجهِه ، و انبَسَطَتْ ملامِحُه ، و سُرَّ سروراً بالغاً قلَّما رُئي على مِثلِه .

ثمَّ كان أن انقسمَ النَّاسُ في القصرِ فئتينِ في الشَّاعرِ و قصيدتِه تقييماً و تصنيفاً :
   أمَّــــــا الــفــئــةُ القليلةُ من أهلِ العلم ، و ذوي الحِلم، و أصحابِ الرَّأيِ و الفهم ، فقد أشادُوا بالقصيدةِ و أُعجبوا بها أيَّــما إعجـــــاب ، بل إنَّ عـــيـونَ أكــثرِهِم راحـــتْ تستنثرُ دمــــوعَ البِشرِ والفـــرحِ و المسرَّة ، لشــــدَّةِ تــــأثُّرِهم و وجـــــدِهِم ، و وقــعـِـهــا في قــــلوبِهم ، و مِن أعجــبِ الــعــجـــبِ أن جـــــــــاريةً صـغـــــــيرةً من جــــــوارِ القصرِ كانت من هذه الفئةِ .

   أمَّــــا الفئةُ الـــــــثـــانيةُ فهُمُ الـــــــذينَ لم يفهموا ســــوى كلماتٍ محدودة ، أو عباراتٍ معدودة ، فــــــــلاذُوا بـــــالصَّمتِ و الحِــــــياد ، و فضَّلوا السُّكوتَ على الخــــــوضِ في الكــــــلامِ و الانقـــيــــاد ، و مــــــا تقــــــدَّموا بتعليقٍ أو تلفيقٍ أو إلى صــــــوابٍ أو خطئٍ إرشاد .

   و لكـــــن كان منهم قومٌ طغى إبليسُ على عقولِهِمُ الجبَّارةِ ، فطغَوا بدَورِهِم على أهلِ الفنِّ في فنِّهم ، و على ذوي العِـــــلم و عِـــــلمِهِم ، أصحابُ الأموال و المناصبِ الرَّفيعةِ و السُّلطة ، قُوَّاد الجـــــيشِ و الحجَّـــابُ و صاحبُ الشرطة ، حتّى أنَّهم حسِبوا أنَّ دراهمَهم و دنانيرَهم ، سيادتَهم و جاهَهم ، نفوذَهم قوَّتَهم و بطشَهم تشتري لهُم من الفَهمِ قِسمة ، أو تسلُبُ لهُم من عقولِ النَّوابغِ و العباقرةِ حِكمة ، فتراهُم مُتفيهِقِين في كلِّ وادٍ يَهيمُون ، حتَّى أنَّك إذا رَنَوتَ إليهم ظننتَهم أخذوا من كُلِّ عـــــلمٍ بِطَرَف ، و حظوا من كلِّ فنٍّ بشَرَف ، و ما في أنفُسِهِم لَعَمرُكَ إلاَّ التملُّقُ و الخُيلاءُ و السَّرَف ، فَضَلُّوا و أضلُّوا .

   و عندما رأوا سُرورَ الأميرِ و بالــــــغَ فـــــرحــــتـــِه ، غِـبــطَتـَـهُ سعادتَهُ و فَرْطَ نشـــــوتِــــه ، و تأثُّرَهُ بذلك السِّحر ،  و تعلُّقَه بما سمِع من شِعر ، راحوا يُدلُونَ بِدلوِهِم ، ويمَضونَ على سَنَنِهم ، و يُنفذونَ باجتِهادِهِمُ الفاسد ، و رأيِهِمُ النَّاقص ، و يُعملونَ عقولَهَمُ الصَّغيرةَ في هذهِ المسألةِ ، و يُفلسفونَ أمرَهَا ، و يَعيبونَ على الشَّاعِرِ العظيمِ مقالتَه ، و يُسفِّهُونُ رأيَه ، و يُشكِّكونَ بولائِهِِ للأمير ، و إخلاصِهِ للعَرْش، ثُمَّ يذهَبونَ بتأييدِ مزاعِمِهِم  كلَّ مذهب ، مُحتجِّين بالحُججِ الواهية ، و البراهينِ الضَّعيفة ، و الأدلَّةِ الزَّائفةِ المطَّرَحةِ - مما يتشرَّبونَ من أبحُرِ علمِهِمُ الزَّاخر ، و لُجِّ فهمِهِمُ الفيَّاض- بين السُّوقةِ و العامَّةِ و السِّفلةِ و الرَّعاعِ ، معتقدينَ الذكاءَ و الدهاءَ بأذهانِهِمُ الخارقةِ ، و حـــــوزَهم عـــــلى عــــــلومِ النحويينَ و البلاغيينَ و المناطقة ، فتَسمعُ أحدَهُم يقول :
   "ما  كان ذلك مِنهُ إلاَّ أسلوبٌ في الذَّمِّ والقدح، يحاكي أسلوبَ الثّناءِ و المدح"
   و آخرَ يتَشادقُ بمِلئ فكَّيه : "أما رأيتَ إلى نظَراتِ عينيهِ و هو يُحملِقُ في زوايا البهوِ و أركانِه ؟!"
   و ثالثَاً :" ألم تتوجَّس من صوتِه نبراتِ البأسِ و الحِدَّة  ، و أنغامَ الهُزءِ أو الشِّدَّة  ؟!"
   و رابعاً : ....

***

  و اغتاظَ الرجلُ غيظاً فظيعاً ، حتى سخِرَ منهم بأسلوبٍ مُرٍّ لاذعٍ قائلاً :
   " فلَعمري ما كان أحوجَهم لمقياسِ ضغطٍ ، أو آلةٍ يعدُّون بها على الشَّاعرِ دقَّاتِ قلبِهِ و خفقاتِه ، يُترجِمُونَ ما أرادَ من معانٍ ، و يُؤوِّلونَ ما خَطرَ على خيالِهِ من خواطر ، حين تلا سِفرَه ذاك الكريم."

   ثُمَّ أردَفَ يقول :
    "و لقد تناسى أولئكَ الحمَقى الغُفلُ الحكمةَ من الأمرِ في البيانِ الإلهي حين قال : " فاسألوا أهلَ الذِّكر إن كنتُم لا تعلمونَ بالبيِّنات و الزُّبُر . "
   و لكن لعمري ما المصيبةُ إلاَّ أنَّهم يجهلونَ أنَّهم يجهلون ، و لا يدرُونَ أنَّهم من الفِئةِ المختصَّةِ بذلك الأمر ، فحسِبوا أنَّهم أهلَ العلمِ و خاصَّته ، و أصحابَ البيانِ و التبيين ، فصاروا يجيئون بكلماتِهم تلكَ السَّامَّةِ فيدسُّونها في مسامعِ الأمير ، و يؤجِّجونَ نارَ الحِقدِ و البُغضِ و الشِّقاقِ بين أبناءِ العائلةِ المالكةِ ذاتِها ، لغَيرَتِهِم من استيلاءِ الشَّاعرِ على قلبِ الأميرِ ، و تَمكُّـنـهِ من لُبِّه ."

    فقاطعتُ الإمامَ ، رغبةً في المعرفةِ ، و فُضولاً لتمامِ القِصَّةِ : "إن كان ذلكَ الشَّاعرُ الذي زعموه على المقدرةِ  تلك العجيبة ، و البلاغةِ و حصافةِ الفكرِ الغريبة ، فلِمْ لَمْ يُناسِبْ معَ المقامِ المقال ، و يوافقِ الشِّعرَ لما يناسِبهُ الحال ؟!.. أوَليست هذه البلاغةُ بعينِها ؟!.. ثمَّ أحسِن به لو أنَّه التزمَ الحِرصَ على تلك الدُّررِ كما في قولِ أحدِهِم :
و احرِص على الـــدُّرِّ أن تُعطي قَــلائــدَهُ
من لا يُـمــيّــِـزُ بين الـــدُّرِّ و الـبـَــرَدِ

فأجابني على الفور :
   لم يكُ صاحِبُنا شاعراً فحسْبْ ، و إنما كان على تمكُّنٍ فظيعٍ من النَّفسِ البشريَّةِ و طبيعتِها ، و خِبرةٍ فيها و بِدوافِعِها ، و معرِفةٍ بأسرارِها و اختلاجاتِها ، و ما يُبتعثُ فيها من نـــــوايا ، و ما يَستكِنُّ بخباياها من خفايا . و لقد كانَ فيلسوفاً عبقرياً و حكيماً جهبذاً ، صاحبَ مذهبٍ و بدعةٍ و رأيٍ مستقِلٍّ عن أسلافهِ من المُتَكلِّمينَ و الفلاسفة.
   فلم تكُ تلك الحادثةُ عن عَبَثٍ و ضعفِ تقدير ، أو جهلٍ و سوءِ تدبير ، بل على العكس مما يتراءى لك أوَّلَ وهلة .

   فلقد كان ذلكَ أسلوباً بالاختبارِ لنفوسِهم ، و استبياناً لأفهامِهم و طريقةِ تفكِيرِهِم ، فيخرُجُ موجِزاً  كلّ ذلك من خلالِ أطروحةٍ بسيطةٍ طريفة ، يقعُدُ بعدها يُترجِمُ الموقفَ ، و يفلسفُ أمرَهُ ، و يحلِّلُ كلَّ حَرَكةٍ و إشارةٍ بل و نَفَسٍ يتنفَّسُهُ أحدُهم ، كما تجِدُ المُعلِّمَ يُلقي في فصلِهِ الدِّراسيِّ المسألةَ المُشكِلةَ على تلاميذِهِ ، يستنتِجُ مقدِرَةَ كلٍّ منهُمْ على  التَّمييزِ و الفهم ، و استطاعتَه على الإدراكِ و كسْبِ العِلم .
   و لو أنَّ الفئةَ الثَّانيةَ بل أصحابَ النفوسِ الضَّعيفةِ منهم لم يظهروا إذ ذاك ، لتوَّجَهُ النَّاسُ ملِكاً على الشُّعراءِ في ذلك الحين ، و رفعوا من قدرِه ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً ، فما كان إلى جانب مدحِ الأميرِ في قصيدِه إلا مديحُهم ، و لم تك تحيَّتُهم تنقصُ قَدْراً في نظْمِهِ أو تنزِلُ مكانةً عن تحيَّةِ مليكِهِم.

   و لكن تلك سُنَّةُ اللَّه في خلْقِهِ ، أوَمَا ترى أن جعلَ بينهم من يُعيبُ كلامَهُ المُنزَل على نبيِّه المُرسَل، و يحُطُّ من قدرِهِ ؟!
   فلستُ أرى الحِكمَةَ مِنَ الخالقِ - جلَّ و عزَّ في عُلاه - إلاَّ أن يُثبِتَ بالفِئةِ الأولى من المؤمنينَ به و الموقنينَ بصحَّتِهِ و بيانِه قُدرَتَهُ على الخَلقِ و الإلقاء ، و في الأخيرةِ من المُرتابينَ و الكفَرَةِ المُشكِّكين إعجازهُ في حفظِهِ على طولِ القرون و تقديرَه له المُكثَ و البَقاءْ...

    فما كان حالُهم إلاَّ كحالِ الأحمقِ الذي عاب على أحدِ أساطيرِ الحبِّ و الشِّعر الغزليِّ فقلت  له وكيف حدث ذلك قال كما يروى أن إبراهيم بن عبدِ الله بن حسن قال لأبيه: "ماشِعْرُ كُثيِّرٍ عندي كما يصِفُ النَّاس" فقال له أبوه: "إنَّك لم تضعْ كُثيِّراً بهذا , إنَّما تضعُ بهذا نفسك."
***
  
   فوقَعَتْ في نفسي تلك القِصَّةِ موقِعاً عجيباً ، بل و اقتنعتُ برأيِه ، و راحتْ الأفكارُ تنسابُ و تطَّرِدُ في الفكرِ كما ينهَمِرُ ماءُ النَّهرِ إذا بلغَ المُنحَدَر، و لمَّا أن أردتُ طلبَ العونِ منه و المشورة إذِ امرأةٌ مُتجلبِبةٌ مُتخمِّرةٌ تدنو منهُ و تهمسُ في أذُنِهِ كلاماً ما استطعتُ أن أتبيَّنَ منهُ شيئاً ، ثمَّ أطالتِ المرأةُ في ذلك ، فتغيَّرَ له وجهُه ، فانتفضَ عن مكانِهِ واقِفاً .

   فحين رأيتُهُ ولاَّني ظهرَه هامَّاً بالانصراف ، تمسَّكتُ بطَرَفِ رِدائِهِ أستدنيهِ و أستطيلُ مُكثَه و أقولُ له على غيرِ تمهُّلٍ و رويَّة : "إلى من تترُكُني فديتُكَ يا إمام ؟!"
   فالتفَتَ إليَّ قائلاً : إذا أردتَني فإنَّك مُلاقيني تحتَ هذه القُبةَّ ، فرفعتُ رأسي و إذ أنا تحتَ قُبَّةِ النَّسرِ في الجامعِ الأُمويِّ الكبيرِ بـدمشق ، وأخذَتني نشوةٌ من ذلك الموقفِ فرُحتُ أتأمَّلُ ارتفاعها و بهاءها و جلالها .

   و استرسلتُ سابحاً في بديعِ الصُّنعِ ، و تمامِ الحِذقِ ، و كأنَّني أرى ذلك للمرَّةِ الأولى.
    ثمَّ انتبهتُ فالتفتُّ يُمنةً و يُسرةً فلم أرَ ثمَّةَ شخصاً في المسجدِ كُلِّهِ ، و قد أضاءتْ أضواءٌ ما حسِبتُ أنَّ في الأُمويِّ مثلَها شِدَّةً ، و ما هي مُنبَعِثةٌ من مصادِرِ الإنارة ، لكنَّها تنبثِقُ و تنتَشِرُ انتشارَ الطِّيبِ في المكانْ ، أنوارٌ و أضواءٌ خِلتُ لها الشمس طالعة في سوادِ الدُّجى ، أما الإمامُ الهُمامْ فإنَّهُ توارى بين الأعمِدةِ الشَّامخةِ فغابَ عن نظري ، فأتبعَتهُ العيونُ دمعاتٍ انساقتْ على الخدود ، و كادتْ تنحدرَ إلى الجيوب ، ما عرفتُها دمعاتُ حزنِ الفِراق أم أُنسِ التَّلاق .

    و إنَّني لفي هذهِ الغمرةِ و تلك العَبرة ، إذا بصوتِ المؤذِّنِ يُبشِّر بطلوعِ الفجرِ ، في ليلةٍ عمَّ الظلامُ فيها ، و تغشَّى القمرَ سُحباتٌ كثيفةٌ سوداء ، فانتبهتُ من غفلتي ، فأفقتُ من نومي لأسمعَ ذاتَ الصَّوت ، فَلَمْ أدرِ حينَها أكانَ سمعي في المنامِ أم اليقَظة ، ثُمَّ رميتُ بنظْرةٍ في الفضاء ، فإذا بالضَّبابِ يملأُ الأجواء ، فأعقَبتُ النَّظَرَ في السَّماءْ ، فوجدتُ البدرَ مؤتلِقاً مُنيراً ، و قد تبدَّدتْ تلكَ الغيوم ، و تلألأتْ هاتيكَ النُّجومْ ، فأحسستُ بصدري و قدِ انشرحَ و كأنَّهُ أزيحتْ عنهُ الغمومُ و الهموم ، فأصبحتُ مُستبشِراً مُتفائِلاً ، و ألفيتُ فيه هذهِ المادَّةَ ، و رأيتُ من الحِكمةِ أن  أُصَدِّر بها ديواني ، و كما يُقال في المثل "أرِ عُذرَكَ و لا ترِ بـُخـلكـك ". و ليس بي من بُخل أو شحٍّ.


***


   و ها أنذا أبعد طعامي - بل أحاول إبعادَه - عن الصِّغار ، رأفةً بهِم و رحمة ، لا بُخلاً عنهُم و ضنانةً ، و من ثم  كان تقديمُ هذا الدِّيوانِ للأكابرِ و الخاصَّةِ من أهلِ العشقِ و الغرامِ  و الأدبِ و اللُّغةِ لا لغيرهم.
   و سنورِدُ – بحولِ الله - ديواناً آخراً يُرضي طبقةً المُتذوِّقينَ من طُلابِ الآدابِ و أنصافِ العامَّةِ .

   هذا و قدْ عمِلنا على أن نُخرجَ هذا الديوانَ في حُلَّةٍ جميلةٍ ، و طريقةٍ  جليلة ، تُشبِهُ بنهجِها التَّدرُّجَ الأكاديمي ، للرُّقيِّ بالمُتأدِّبين و المُستشعِرين ، و الصُّعودِ بهم طبَقاتِ الشِّعرِ الَّتي طالما انحطُّوا فيها و بها إلى الحضيضِ الأسفلِ ، و الدَّرْكِ الأنزَل ، من الإسفافِ اللُّغويِّ ، و الإجحافِ المنطِقيِّ ، فما أبقوا على لغةٍ ، و لا ذوقٍ أدبيٍّ ، و لا حِسٍّ شاعري ، حتَّى صار أدبُهُمْ من غيرِ أدب ، و هبطوا الغايةَ في التَّسفُّلِ بالكلامِ و الانحطاط ، حتَّى إنَّك غالباً ما تجدُ في الإعلاناتِ الطُّرقيَّة ، و الصُحُفِ المحليَّة ، و الأخبارِ المسموعةِ و المرئيَّة ، بل و حتَّى في كتُبِ التَّلامذِ المدرسيَّة ، ما يكونُ أجملَ عِبارةً ، و أحسنَ سبْكاً ، و أدقَّ وصفاً، و أرفعَ خيالاً و ذوقاً ، و أبقى في النَّفسِ أثراً ، من قصيدةٍ – و نُطلِقُ ذلك مَجازاً على كلماتِهم المُتبعثرةِ في صفحاتِهم -  لشويعرٍ أو شعرورٍ بلغَ من الشُّهرةِ والصِّيتِ ما يجعلُكَ تجدُ اسمَهُ ملأَ أفواه العامَّةِ ، بل و صاروا يتشادقون بكلماتِه تلك السَّامَّة ، إذاً فلعمري تلك المصيبةُ الطامَّة .

***

   أفرأيتَ إلى النَّحلةِ تخرُجُ من خليَّتِها تقطعُ المسافاتِ الشاسعة ، و تجوبُ الأراضي الواسعة ، تقعُ على مختلفِ أنواعِ الزَّهرِ في الجبلِ و السَّفحِ و الوادي ، حتَّى إذا أبدتْ الكَدَّ و الجُهدَ آبتْ بالنَّذرِ اليسيرِ من العسل ، و "يخرِجُ من بُطونِها شرابٌ مختلفٌ ألوانُه "...
   عجبتُ لها طيِّبةً أين وقعت - و لا تقعُ إلا على طيِّبٍ- تعودُ بأطيبَ ممَّا تقعُ عليه .
   فذلكَ مثَلُ الشِّاعرِ العظيمِ و الأديبِ الحقِّ ، ذو مقدِرةٍ عظيمةٍ على التَّركيبِ و المزْج ، و التَّوليدِ و السَّبك ، كأنَّهُ الصَّائغُ و الذَّهبْ ، ثُمَّ إنَّهُ يُتعِبُ نفسَه و يَكُدُّها ، و يجوبُ في بُطونِ الكتبِ و أُمَّهاتِها ، مُترحِّلاً بينَ مختلفِ العُلومِ و الآدابِ ، من أرقى ما توصَّل إليهِ الفِكرُ الإنسانيُّ في مختلفِ عصورِهِ ، ثم يُنتِجُ عن ذلك -وبفضلِ قريحةٍ مُبدعةٍ و فكرٍ ناضجٍ و حِسٍّ رقيقٍ و أسلوبٍ بديعٍ-: أدباً عالياً راقياً كما تؤوبُ النَّحلةُ  بالعسل .

   ثم انظر-أعزَّك اللَّهُ-إلى الذُّبابةِ- و"إنَّ الله لا يستحيي أن يضربَ مثَلاً ما بعوضةً فما فوقها" - تراها تروحُ و تغدو باصطيادِ مواقِعِ الأقذارِ ، و اختيارِ مواطِنِ الأكدار ، تقعُ عليها و لا تؤوبُ إلاَّ بالخُبْثِ و المرضِ و الوباء...
   عجِبتُ لها خبيثةً أينَ ما رحلت - و لا ترحلُ إلا إلى خبيث - و تؤوب بأقذرِ ممَّا ترحلُ إليه .

    ذلك مثل المُستشعِر أو الشُّعرور وذلكَ مبلغُه من العلمِ و العقلِ و الجنانِ ، و القُدرةِ على البلاغةِ و التَّبيينِ و البيانِ ، و الفصاحةِ و التَّوليدِ و المعاني ، و التَّركيبِ و المزجِ و التَّخليط ، و كأنَّهُ الكلاسُ و الطِّين  ، و ذلك ما يقعُ عليهِ من أدرانِ أمثالِهِ و آدابِ أقرانِهِ .

    فإن أتى أحدُهم بشيءٍ مُصادفةً فإنَّك واجدُه سارقاً – ومن السِّرِقةِ في الشِّعر ما يكونُ محموداً - من أدبِ غيرِهِ سرقةً دنيئةً شاءَ القدرُ أن يرفعَ بها شأنَه ، و يحُطَّ من قيمةِ ما سرقَ ، من غيرِ أن يحظى بشرفِ اختراعِهِ ، فيبقى في نفسِه دون ما يكونُ الذُّبابُ في نفسه .
"وَتِلْكَ الأمْثالُ نَضْربُها لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفكَّرون" 
 ***
 
 و كما " سيقولُ السفهاءُ من النَّاسِ : ما ولاَّهُم عن قِبلتِهِمُ الَّتي كانوا عليها ؟!"، و لمْ يكُ عزمُنا في الكلام ، و لا قصدُنا في المقال ، و لا توجُّهُنا في الفنِّ كما يعرف القرَّاءُ إلى الشِّعرِ ، فهو في نفسِنا دون ما نحنُ عليهِ من القُدرةِ البيانيَّّة ، و الصَّنعةِ البديعيَّة ، و ليس أن زجَّنا  في صفوفِ الشُّعراءِ ، و إقحامَنا في تعدادِهِم ، يُسعِدُ النَّفسَ أو يُرضيها بشيءٍ ممَّا تطمَحُ إليه ،و مع كلِّ مآثرِ الشِّعر و الشُّعراء ومكانتِهِم في المجتمعِ و من الطَّبيعةِ و ما وراءها و حتَّى من السَّماء,
ولكن قديماً قالوا :

ما لـك تـرضى أن تُعدَّ شاعراً ؟!
بُـــعـــداً لــهـا مـن عددِ الـفـضـائلِ


   و لكنَّنا لما علِمنا ذلك الانحطاطَ و هذا الإسفافَ الَّذي أتى به شعراءُ اليوم - " إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ" - ، و بتغيُّبِ أمثالِ جريرٍ و الفرزدق في فصاحتِهما ، و البُحتُريٍّ والمتنبِّي في بلاغتِهِما و شوقيٍّ و حافظ في فنهما ، و قد صحَّ عندنا ما أجمعَ عليه اليومَ النُّقُّادُ و الأدباءُ و علماءُ اللغةِ و فقهاؤُها أنَّ شوقياً  كان أخرَ أميرٍ للشِّعرِ و ساحرٍ في البيان .

   و عندما رأينا الحاجةَ الماسَّةَ لإحياءِ تلكَ المدارسِ و ما اندرسَ فيها ، و إعادةِ تلك المذاهبِ و الذي ذهبَ منها ، و تشوُّقِ النَّاسِ في زمنِ العلمِ و المعلوماتيَّةِ ، و الحاسوبِ و التكنولوجيا ، لسماعِ شعرٍ فصيح ، و تذوُّقِ فنٍّ في الغناءِ صحيح ، مُزامِناً لهم مُعاصِراً ، على غيرِ الدَّربِ الذي أمسوا على قارِعتِه  كما أسلفنا ، أضِف إلى ذلك تكاثرَ فُحشِ القولِ ، و دناءةِ السُّلوكِ ، و سوءِ التَّعبير ، و تغيُّبِ الشُّعور، ذلك الذي ينزعُ - بالرُّغمِ منهم -اصطلاحَ الشِّعرِ ، و إطلاقَ هذا الاسمَ على ذلك المُسمَّى ممَّا يُسَمُّونَه دواوين ، و رحِمَ الله أميرَ الشُّعراءِ إذ يقول:
و الشِّـــعـرُ إن لم يكن ذكرى و عاطـفـةً
 أو حــكمــةً ، فـهـو تـقطـيـعٌ و أوزانُ

   حتَّى أنَّهم خرجوا عن القافيةِ و الوزنِ بدعوى التَّجديد و الحريَّة فقالوا بشيءٍ يُسمَّى القصيدةَ النَّثريَّةَ فلم يكن لهم حتَّى فضلُ التَّقطيعِ و الأوزان .
و على ضوء ذلك ، و استجابةً لإلحاح الإخوةِ العُلماء  و الأدباء ، و بالتَّزامُنِ مع يقظةِ أبناءِ الأمَّةِ للغتِهِم ، و عودة حِرصِهِمْ على تُراثِهِم و ثقافتِهم ، رأينا نشر هذا الدِّيوان ، مُقدِّمةً يأتي بعدها - بعون الله - التَّأليف ، و عنواناً يجيء عَقِبَه - بمدده - التَّصنيف .

أنا الحـصـنُ المـنـيـعُ فلستُ أخـشى
مـدافـعَ بـل ذُبـابــاً أو هَــــوامـا

أنــا الــطَّـاعـونُ بـل سُمٌّ زعـافٌ
أنــا الآفـاتُ فـاحـذرْ أن أُلامـــــا



ابن نزار الدمشقي 






مع تحيات: الموقع الرّسمي للأستاذ ابن نزار الدمشقي

التعليقات

  1. جميل رأيك ...
    الإبداع لايعرف شكلا واحداً
    وأنت تدعو للإبداع في قالب واحد - الوزن والقافية -
    صديقي اللغة العربية منحة من المولى قوية بكونها لغة القرآن وإن استعملناها في إبداعنا فلن ينقص من قداستها لأن الجوهر يظل جوهراً مهما تنوع صائغوه ...(أنا من كتاب القصائد النثرية )

    ردحذف

جميع الحقوق محفوظه © ابن نزار الدمشقي

تصميم الورشه