الرسالة الثالثة و الثلاثون

0


من نبيذ نورك الخمري
و من لون ثوبك التبري
ركبت عطرا فريدا عجيب الشكل و الرائحة
أنشأت من أحرف اسمك قارورة صغيرة
قصبت جدرانها البلورية العاتية
بشيئ من أحمر شفاهك
الذي تركتيه على قميصي متعمدة في ليلة خطوبتنا
صببت ذلك النور العطري في تلك الزجاجة الثمينة
و  هبت نسائم الربيع الأول
فركنتها في زاوية مهملة من الحافة الحجرية السوداء
 في شرفتي
تحت شجيرة الياسمين العراتلي
فيحتسي ذلك السائل البلوري
مما تسكبه الشمس عند تباشيرها الأولى
علاوة عما ينشقه من شذى ياسمين دمشق
و ما يستشفه من تربتها و يغتذيه من مائها النمير
عساه بعد برهة يخرج للكون
شرابا فيه شفاء للناس من كل داء
يحتسوا منه بعيونهم و آذانهم لا بأفواههم
هذا ما كنت أرجوه من ذلك الصنيع
و هذا ما أضحيت أرمي إليه حبيبتي
 و مضى الربيع ربيع السنة إلى سبيله ولا زال ربيعي الخريفي يطرق بابي كل ليلة و كل صباح
وحال الحول وظلت تلك الزجاجة مكانها أتعهدها كل وقت
و أنظفها و أمسح عنها دمعات السماء
التي باتت تذرفها على أبناء جيراني
وبناتهم
في الفقد
و الموت
و الفساد
و الضياع

عدت ذات مساء إلى بيتي متأخراً
أنصت لأزيز الرصاص بكل خشوعٍ و ترنُّم
فكأنني أستمع للحن سماويّ
تضربه ملائكة الله
على أوتار من نور و نار
وقبل أتوجه إلى مكتبي
قصدت الشرفة أتفقد الطير فيها و الزجاجة
فلما أن رفعت ساقي أرتقي درجاتها
يبست الساق و تخشبت
و ذهلت لما أن رأيت الطير الذي فقد حبيبته قبل أيام
يقابل ظله على جدار الياسمين
و قد سكب القمر في تلك الليلة على ذلك الحائط
أرطالا من سائل الفضة
و هو لا يزال يسكب المزيد و المزيد
و ما كان ذلك الانبهار و تلك الدهشة مني
 إلا أنه عودني أن يكون في وقت كهذا
قد أوى إلى قطن فراشه القشي
دخلت الشرفة
اقتربت من ذلك الطائر الحزين البائس
مددت يدي أمسح رأسه و أطيب خاطره
ليسدل أجفانه
عل راحتي توصل لقلبه الصغير
شيئا مما فقد من حنان و عطف و حب و لهفة
و قد تعلق دون غيره بي كما لو كنت أحد أبويه
حتى غدوت أشعره لو كنت ذا ولد أحد أبنائي
ويا لذلك الرعب الذي غزا قلبي برماحٍ تلوكه
و تنفذ فيه من كل جهة وصوب
فتغزل به كما لو كانت خياطا و كان قلبي الحرير الرقيق
شعرت و ما شعرت
و كيف لي أن أجد شيئا من الشعر
و قد ذابت في كل أداة يستخدمها الكائن الحي
في تلك العملية
بسيطة كانت أو مركبة
مرهف الحس كان أو بليده
كيف لي أن أستطيع !!
و يا لرحمة ربي كيف تنزل على المرء في مصائبه
فيسلب ما أودعه في أحيانٍ تنزل عليه المصيبة
فكأنها صخرةٌ أو جبل عظيم
تهبط فوقه
فيسحب من تحتها لئلا يستشعرها
فلو أنها أصابته صيرته عهناً أو دقيقاً مذروا
تلك هي الرحمة الإلهية
تتلقى الإنسان كأنها سريرٌ أو نقالة إسعاف
تحتضنه برهة
بعيدا عما حل به حتى إذا ما مضى بعض الوقت
أرجعته موضعه
أو فوق تلك الصخرة لو كان حكيما
فتكون المصيبة له دفعا و رفعا يستند إليه بدل أن تستند عليه فتهلكه


مع تحيات: الموقع الرّسمي للأستاذ ابن نزار الدمشقي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جميع الحقوق محفوظه © ابن نزار الدمشقي

تصميم الورشه