المئذنتان

0


كان في حيّنا مِئذَنة
كُنتُ أسهرُ تحتَ تلكَ المِئذَنة
كُنتُ أشربُ و أغسلُ و جهي من نورِها
كُنتُ أسمعُ في الليلِ من ضوئِها
مواويلَ وقصائدَ غزل
كنتُ أسمعُ من ضوئِها ألحاناً كثيرة
و قِصصاً مُحزِنة
و عَتَابا و ميجنا
كانَ حيّنا جميلاً مضيئاً في تلكَ الآونة
مضيئاً بنورِ تلكَ المِئذَنة
كان تحتَها مِربطُ خيلٍ
تشعُّ من شقوقِ جِدارِه روائحُ الخيلِ الأصيل
فتضيءُ مع نورِ تلكَ المِئذَنة
كنتُ أستمعُ لِحِوارِ الحصانِ الهَرِمِ
مع حفيدِهِ الصّغيرِ في السّحَر
كانَ حديثُهُما في الليلِ جميلاً
و كانَ كأنّهُ حديثُ غَزَلٍ أو سَمَر
***
كانتْ جارتُنا في العَتمةِ
تقعُدُ تحتَ العريشةِ على سطحِهم
فأرى ظِلّها  و ظِلَّ العريشةِ
و أرى تاراتٍ ظلَّ شَعرِها
فأُدرِكُ أنها بغيرِ حجابٍ
فأغضُّ طرفي عن ظِلِّها
كُنتُ في الليالي أُنصِتُ لنجواها
و هي تُناجي أنوارَ المِئذَنة
تُناجي أحجارَ المِئذَنة
فتقولُ لها أحاديثاً ما كُنتُ أفهمها
كانت شاعرةً رقيقة
لكنّها كانت أُمِّيَّةً
لا تعرِفُ القراءةَ و لا الكتابة
كانت شاعرةً رقيقة
يرحمُها الله
فقد ماتت لمّا أن نَشَبَت بِبيتِهِمُ حريقة
و طالت حتى بلغتْ تلكَ المِئذَنة
يا لَحُزني
لقدِ احترقتْ و ما أسعفَها أحد
لقدِ احترقتْ تلكَ المِئذَنة
و كانَ الناسُ في نومٍ عميق
و قد احترقت تلكَ الشاعرة
وكنتُ بين النُوّمِ
و ما استطعتُ أن أفيق
لقد احترقتا بعدَ أن أنارتا الظّلام
و رُويتُ أنهما حتى في احتراقهما
كانتا تضيئان كلّ أرجاءِ المكان
لقد احترقتا
فكيف يُضيءُ في حيِّنا الظّلام!!
لقد تُوفِّيتا
فكيفَ أسمعُ الشّعرَ في الليل
بين مِئذَنتين
واحدةٍ بشريّة
و أخرى من حجر!!
ليت شعري
كم كنتُ أُحبُ تلكُما المِئذَنتين
كانت الأولى تُنذِرُ الناس
و تنذرهم أن هناك شرٌّ
من حيِّنا قريبٌ مستطير
لكنّ الناسَ كانوا نِياماً سُكارى
و ما هُم بِسُكارى
و لكنّ خمرةَ المعيشة
كانت حتّى تُسكِرُ أطفالَهم
و لمّا احترقَتِ المِئذَنة
صارَ الناسُ يبكونَ أسفاً
و ينتحِبونَ خوفاً و قلقا
***
و كانتِ المِئذَنةُ الثانية
تُذكِّر الناسَ في الليل
كانت تُذكّرُهُم
و تُحذِّرُهُم من عاقِبةِ نومِهم
كانت تُهدِّدُهُم و تُخَوِّفُهم و لكن
بكلِّ لُطفٍ وحنانٍ
و محبةٍ و سكينة
كانت كالأُمِّ الحنون
لقد كانت شاعرةً رقيقة
كانت تودُّ لو أنّها تُعيدُ للنّاسِ عاداتِهم و أصالتِهم
تقاليدَ آبائِهِم و نخوتَهم
لكنهُم كانوا يهزَؤون منها
بأصواتِ شَخِيرِهم
كانت دائماً حزينةً
بل كانتا دائماً حزينتين
و لقد كانت تَعلمان
أن الشّرّ من الحارة قريب
و أنّ الموتَ لا محالةَ منهم قريب
و أن الهلاكَ و الدمارَ لبيوتِ الحارةِ قريب
كانت تعرفانِ الكثيرَ الكثير
فقد كنتُ أستمعُ لحديثِهِما العذبِ الشّجيِّ
تحتَ ضوءِ الأُولى و سناءِ القمر
و لكن ليت شعري
لقد غاب القمر
لقد حزنَ القمرُ على حريقِ المِئذَنتين
فارتعدَ و ارتجف
وانشقّ و انحسر
لقد بكى و بكى ثم انصرف
ذهب وراء تلك الغيماتِ السوداءِ الكثيفةِ
التي أرسَلَتها المِئذَنتان رسالةَ موتٍ إلى الشمس
***
لقد كانت في حيّنا مِئذَنة
كُنتُ أسهرُ على ضوءِها و نورِ القمر
و لكن ما عادَ اليوم في حيِّنا مِئذَنة
و لم يعُد في حيِّنا قمر
ولا مِربطُ خيلٍ
لقد صارَ يأتي في الليلِ لحيِّنا
الثعالبُ و الذئاب
و الأفاعي و العقارب
ليسرقوا دجاجاتِ جارتِنا العجوزِ و بيوضَها
الذئابُ كثيرةٌ أكثرُ من أهلِ حارتِنا
و الثعالبُ أكثر
و الجوعُ في أهلِ حارتِنا انتشر
و الهمُ فوقَ صدرِها كبر
و الحزنُ اشتد
و الألمُ و القلقُ
و الظلمُ شديد
و الظلامُ أشد
فبعدَ غيابِ القمرِ و المِئذَنة
تجرَأَ الذئابُ و الثعالبُ على حيِّنا
حتى كلابُ الحيِّ جبُنتْ و استكنَّت
حيثُ ما عادَ في حيِّنا بصيصُ نورٍ حتى في النهار
صار حيُّنا ظلاماً
حتى في النهار
فقد احترقتِ المِئذَنة

***


مع تحيات:
الموقع الرّسمي للأستاذ ابن نزار الدمشقي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جميع الحقوق محفوظه © ابن نزار الدمشقي

تصميم الورشه